يقولون: (الذي لا يعمل هو فقط الذي لا يُخطئ) وهذا صحيح؛ ولكن الأدهى والأمر أن هناك من يعمل لإثراء جيبه على حساب أمانته، ووطنه، وأهله، وعلى مرأى من الجميع، وبوقاحة، ثم يفر من المساءلة بالغنائم (الحرام)، ولا يجد من يحاسبه؛ عندها يجب أن ننتظر الكوارث، ربما تكون كارثة سيول جدة والفضائح التي كشفتها (ولا شيء) مقارنة بما يخفيه المستقبل من كوارث.
المحاسبة والمساءلة جزء من حماية الدولة أي دولة من الانهيار وضمان لاستمرارها؛ إذا لم تفعّل، معنى ذلك أن ثمة خللاً في العدالة التي هي أساس الملك. وكما علّمنا التاريخ أن الفساد إذا ما استشرى في مجتمع فقل على هذا المجتمع السلام. ما حصل في جدة هو بالمختصر المفيد سببه (الفساد)، ونتيجة كان يجب أن نتوقّعها لغياب المساءلة والمحاسبة.
هناك نظام صدر في الثمانينيات من القرن الهجري الماضي في المملكة بعنوان (نظام محاكمة الوزراء ونواب الوزراء وموظفي المرتبة الممتازة) يعالج هذا النظام انحرافات كبار موظفي الدولة، ممن يتحمّلون مسؤوليات إدارية عليا، ويمارسون أعمالهم من خلال صلاحيات تخولهم لاتخاذ قرارات تمس الوطن والمواطن، ولكي لا يستغل المسؤول صلاحياته في الإثراء غير المشروع، أو في توظيف سلطاته في قضايا خاصة لا تقرها المصلحة العامة. غير أن هذا النظام طوال أربعة عقود لم يفعّل حسب علمي ولو مرة واحدة. وهذا يعني (بالضرورة) أن كبار المسؤولين إما أنهم ملائكة منزهون عن الخطأ والانحراف وبالتالي لم يفعَّل هذا النظام لأن جميع المسؤولين لم يقترفوا ما يستدعي محاكمتهم؛ أو أن هذا النظام صدر أصلاً لمجرد (الزينة)، كأي تحفة جميلة يقتنيها الإنسان للتباهي، وإضفاء مسحة جمالية على المكان كأي قطعة (أنتيك) في المنزل مثلاً.
وإلا فهل يُعقل أنه طوال أربعين عاماً لم ينحرف ولو موظفاً كبيراً واحداً عن الطريق السوي لتتم محاكمته؟
الإنسان بطبعه ضعيف إذا ما تسلّم سلطة، وضمنَ عدم المساءلة والمحاسبة.. وثنائية (الثواب والعقاب) في كل الشرائع جاءت من حيث المنطلق لكبح جماح النفس الأمَّارة بالسوء، ولكي تحافظ على توجه الفرد والجماعة، والرئيس والمرؤوس، متوازناً ضمن نطاق (مصلحة) طرفي العقد الاجتماعي، والمحافظة على العدالة بمفهومها الواسع. وعندما تغيب المساءلة، ويأمن صاحب السلطة الإدارية المحاسبة، ويُقدم مصلحة (الأنا) على مصلحة المجتمع، فإن العقد الاجتماعي يعتريه من الضعف والوهن ما يعرّض استقرار المجتمع برمته إلى ما لا تحمد عقباه. والفساد المالي والإداري لا يمكن أن ينتشر ويتجذر إلا إذا غيّبت آليات الرقابة والمحاسبة، وبالتالي العقاب.
ما حصل في كارثة جدة ما كان ليحدث لو أننا منذ البداية تنبهنا إلى حقيقة تقول: (من أَمِنَ العقاب أساء الأدب). لقد أَمِنَ العقاب من تغاضى عن مخططات سكنية فأجاز بناء بيوتها في بطون الأودية. وقد أَمِنَ العقاب من شيَّد تلك الطرق والأنفاق التي تحولت إلى خزانات لمياه السيول. وقد أَمِنَ العقاب من قال: أنا ومن بعدي (الطوفان)؛ فباع أمانته بعد أن ضمن مستقبله ومستقبل أبنائه وأحفاده وربما أحفاد أحفاده؛ أما مدينتنا الحبية (جدة) فكاد أن يلتهمها بالفعل الطوفان.
وختاماً أقول: بعد أن رأينا كيف أن تغييب (المحاسبة والمساءلة) يورّث الكوارث يجب ألا تمر كارثة جدة دونما محاسبة؛ فلقد بلغ السيلُ الزبى حقيقة لا مجازاً؛ وأملنا عظيم في ملك الصلاح والإصلاح (عبد الله بن عبد العزيز)؛ فأسر شهداء كارثة جدة ليس لهم إلا أنت أيها المصلح العظيم؛ أيَّدك الله بتوفيقه وسدَّد خطاك في مكافحة الفساد والمفسدين. إلى اللقاء.