أكتب هذا المقال في لندن، وأتابع أخبار سيول جدة التي أدت - للأسف - إلى قتل 83 شخصاً حتى الآن، مع فقد المئات وتشريد الآلاف، فيما تسببت السيول في جرف 3 آلاف سيارة وداهمت 1500 منزل.. وقد غرقت أحياء بأكملها جراء السيول، إضافة إلى حوادث تماسات كهربائية أو احتجاز نتيجة تجمعات المياه والوحل بشكل كبير، كما تأثرت المنازل نتيجة تسرب المياه، والمجهودات الكبيرة للدفاع المدني والأجهزة الأمنية الأخرى والجيش مستمرة، إضافة إلى (فزعة) الناس لبعضهم البعض.. كما استخدمت طائرات إنقاذ لفك أسر المحتجزين، وهي أعمال كبيرة وجبارة ما زالت متواصلة حتى الساعة.
كارثة طبيعية بكل ما للكلمة من معنى، لكن كان يمكن تقليل نتائجها الكارثية وأضرارها.. لو كانت جدة المدينة الاقتصادية الأبرز في بلادنا، والمنفذ المهم.. لو كانت غير مترهلة ومفككة في خدماتها، واختلطت فيها بحيرات الصرف الصحي مع سيول جارفة ليس لها طريق تسلكه إلى جوف الأرض.
لندن تمطر بلا توقف، لكن لا أثر للمطر في الطرقات والممرات التي لا يبقى فيها إلا رائحة المطر، صحيح أن مدينة مثل لندن عريقة ولها تاريخ أوسع في التخطيط العمراني وخطوط الخدمات المختلفة في ممرات كبرى تحت الأرض.
وبالطبع لا يمكن مقارنة جدة بلندن إلا لناحية أن لندن بلد أسست فيه الخدمات بشكل ملتزم تخطيطاً وتنفيذاً وتحديثاً، وتحت شوارع وأحياء المدينة توجد مدينة أخرى من خدمات البنية التحتية، حيث تمتد أنفاق ضخمة لكل الخدمات تقريباً.. فيما جدة أشبه بلوحة تشكيلية لرسام مبتدئ استخدم ألواناً فاسدة.
وهذه في الحقيقة مشكلة جدة، التي بقيت لأكثر من عقد تعاني من نفس المشاكل التي تتكرر بأخطار متفاوتة، فيما الفساد نهش أجهزتها وإدارتها المختلفة، ويتناقل الناس أخباراً وصوراً قديمة لعشرات المشاريع التي أعلن عن تنفيذها ولم تنفذ أو نُفذت شكلياً فقط!.
ما حدث في جدة سيكون مفهوماً لو كان شيئاً جديداً أو سابقة، لكنه مشهد يتكرر مع سقوط حبات مطر قليلة، وسيكون مبرراً لو حدث في قرية نائية أو مدينة لا يتواجد فيها حجم وعدد الأجهزة الحكومية المتوفرة في هذه المدينة.
لكن السؤال الاحترازي، هو ماذا سيحدث لو هطلت كميات الأمطار هذه على مدن أخرى في بلادنا؟
سؤال مخيف مع مشاهدات كارثة جدة الطبيعية، لكنه يتطلب مراجعة كاملة لأحوال المدن وبناها التحتية، إلا أن هذه المراجعة لن تحقق شيئاً دون الذهاب إلى الحل الجذري، وسر مدن عالمية مثل لندن، فالحل يكمن في التخصيص، تخصيص إدارة خدمات البنية التحتية عبر نظام دقيق وصارم قد يتولى مجلس الشورى الحبيب إعداده.
كل عام وأنتم وجدة بخير... إلى لقاء.