Al Jazirah NewsPaper Sunday  29/11/2009 G Issue 13576
الأحد 12 ذو الحجة 1430   العدد  13576

انتصار الإرادة على الطبع حياة مستعادة
د. عبد المحسن بن عبد الله التويجري

 

يولد الإنسان، بطبعه المقدر وطابعه الذي به تتكون شخصيته وأسلوب تعامله مع الأشياء من حوله فكراً وسلوكاً، وبعد الولادة وحين يبدأ مشوار حياته مع العمل والمسؤولية ومع الناس يتعامل بطبعه وما اكتسبه من

المجتمع من مفاهيم وعادات تلقائيا، أو بقوة التأثير فيه من مصادر أخرى.

فيتداخل المكتسب وأصل الطبع ولا يقدر على الفصل بينهما إلا الإنسان نفسه لتحديد ما هو من طبعه والمكتسب، وبهذا ومن خلاله يتوجه إلى الناس حين التعامل معهم، وكذلك مع مسؤولياته وعمله وكل علاقة يرتبط بها، وهذا التعامل يتم بأثر الطبع والمكتسب أيضاً.

وللناس رأي في تعامله، وبناء عليه يأتي الحكم على هذا الطبع، ومن الأمثلة على تأثير الطبع، على الناس وعلى مصالحهم وانطباعاتهم فالقبول، سواء بالرضا أو السخط، فيحتل من نفوس الآخرين المحصلة لهذا، وفي بعض الأحيان قد يستفز واحداً من الناس فيحرك وسائل لا تخلو من العنف.

ومن الأمثلة على تأثير الطبع ونتائجه ما يقول به أحد الإخوة إذ قال إنه اعتاد على مراجعة موظف بعينه وإنه حين يلجأ إليه، أو يكون الموضوع بيده وفي مكتبه، أجد كل ترحيب واستعداد، فيجتهد في تسهيل المعاملة والأوراق إن كانت بيده مسؤوليتها وإن كان الأمر في أقسام أخرى بمقر عمله فلا يتردد في مساعدته وبذل جهده لتسهيل أوراقه.

وفي إحدى المرات راجعته كالعادة فإذا بي أمام رجل مختلف، فبعد اطلاعه على المعاملة وما سمعه مني من الإيضاح رد بقوله: إن هذا الموضوع صعب إن لم يكن مستحيلاً، وسأحيلها إلى صاحب الشأن لتراجعه بنفسك، إن بعض الموظفين في هذا الوقت طرأ عليهم بعض من التبدل، فلا يبت في المعاملة إلا بعد أن تهدي له هدية مناسبة، وهذا الموضوع أنت أقدر مني على التعامل معه وإيجاد الحل لموضوع معاملتك.

لقد كان تحولاً خطيراً من خلال ما سمعت أنه يلمح لتورطه في الرشوة وبدأ يروج لها - فتركت مكتبه وانصرفت لتدبر الأمر.

وقال لي آخر إنه كان طالباً مبتعثاً لبلد ذكر مكانه، وحين سمح بالانتقال والدراسة في مكان غيره عدت لبلدي وقدمت أوراقي أطلب نقلي إلى بلد حددته ومأذون بالدراسة فيه، وفوجئت أن من قدمت أوراقي له يطلب مني إحضار ما يسمونه بكعب تذكرة سفر الابتعاث، وبكل الأدب أحطته أن مثل هذا لا يوجد معي شيء منه فرد أن الأمر مهم وكل شيء أستطيع مساعدتك به رهن لما أطلبه منك، ولابد أن تأتي بكعب التذكرة حتى أجيز طلبك.

وبعد مراجعته عدة مرات وتدخل من يعرفه سارت الأمور على طريق الفرج ووجهني إلى المسؤول عن البعثات، ولقد لازمني الحظ السيئ فلم يذكر لي هذا المسؤول شيئاً محدداً بل أخذ أوراقي وأبقاها في درج مكتبه وقال عليك بالانتظار حتى يعود الوزير من إجازته، تركته بعد أن استبد بي اليأس وأخبرت والدي بذلك الذي وسّط والد زوجته، ولكن لم يتجاوب معنا.

فتحدث والدي مع وكيل الوزارة وبدوره أعد خطاباً إلى الوزير بالإنابة من أروع ما أتذكر ذهبت مع والدي إلى الوزير بالنيابة، وكان وقتها نائباً لرئيس مجلس الوزراء بجانب وزارته، فشرح بخط يده تعليماته الواضحة الرائعة، وأنهى شرحه (ويستثنى بصفة خاصة) فأخذت المعاملة لأراجع مسؤول البعثات، وبعد اطلاعه على خطاب وكيل الوزارة، والوزير بالنيابة أضاف هذا كله إلى سابق المعاملة وأكد أن كل شيء مرهون بعودة الوزير.

فخرجت من مكتبه والحيرة واليأس الأقرب إلى نفسي، وفي ممر يتصل بمكتبه وقفت حائراً لا أدري أي مصير ينتظر هذه الأوراق، ولحظتها رأيت رجلاً أعرفه ويبدو أن والدي قد أرسله لعله يحرك المعاملة التي استولى عليها ذلك الرجل، وبعد دقائق معدودات خرج وقال لي: ادخل المكتب لاستلام معاملتك بعد أن شرح عليها بالموافقة ووجهها إلى جهة لا تملك الرفض، استلمت معاملتي وأنهيت ما تبقى من إجراءات ورحلت إلى مقر الدراسة المقصود.

هذه الأمثلة إيضاح يبين أثر الطبع في مصالح الآخرين ويبين المساحة التي يتحرك معها الطبع ليسبب ضياعاً أو إحباطاً أو أنه طبع خير يساعد ويدفع نحو الصواب.

ومن المثال الثاني المعاملة قد شرح عليها بالموافقة ومن مسؤول ورئيس للوزير وبه الأمر والشفاعة، ولكن ما يمليه الطبع أو ما اكتسبه المسؤول صار حائلاً ومانعاً يفسد الأمل ويعطله، على الرغم من أن كل ما فيه حق لا باطل معه.

فالطبع يفرض نفسه ما لم يراجعه الإنسان ويقضي على الشوائب والسلبيات، فهو عرضة لوسوسة النفس وتأثير المزاج إن لم يكن طمعاً وجشعاً ينتظر معه رشوة كأن صاحب الحق في سوق سوداء يطغي عليها بيع وشراء.

فالتحرر من الطبع السيئ وتطهير النفس خلق حميد ولازم وملح، والعبرة بقوة البصر الذي به نرى ونتأمل نفوسنا ونتحرى ما للناس من حقوق وجب التفاعل معها بإيجاب وعدل وإنصاف.

فالحق إذاً عطله طبع المسؤول لا ينفع المبرر من ورائه، أو السبب الظاهر لإهماله، وكل طبع محصلته إيذاء مصالح الآخرين، ومهما كان السبب لذلك وجب إصلاح بنيته وإبعاد تأثيره، فمن يتأمل في النفس وما تصنع يلح على تهذيبها لمصلحة الإنسان نفسه، وحفظ لحقوق الآخرين فلا معنى أن يؤذي الطبع مصلحة الغير وهم على خط مستقيم لم يتجاوز أحد منهم أي شيء يؤكده نظام أو يحرسه قانون سائد ومطبق على الجميع.

قال الحق سبحانه: ?وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا? (سورة النحل الآية 92) صدق الحي القيوم.

وقال المتنبي:

إذا اعتاد الفتى خوض المنايا

فأهون ما يمر به الوحولُ

وقال آخر:

نصحتك لا تألف سوى العادة التي

يسرك منها منشأ ومصيرُ

والتوفيق بيد الخالق عز وجل.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد