في علاقتنا مع لغتنا العربية نمارس عقوقاً ربما لا يماثله عقوق أمة من الأمم للغتها، هذا إن وُجد من يعقّ لغته غير العرب.
ومن مظاهر هذا العقوق أننا لا نخدمها حقّ الخدمة، ولا تأخذنا الحماسة لنشرها والحفاظ عليها، وبثّ الوعي بقيمتها وقيمة التمكّن فيها وفي آدابها.
والظواهر في هذه القضية كثيرة، وسوف أخص هذه المقالة بواحدة منها، وهي ظاهرة مقلقة جداً، وهي انتشار (العربية الهجين) في المملكة ودول الخليج انتشاراً كبيراً، تلك اللغة التي جاءت مع العُمال غير العرب وانتشرت بانتشارهم، وصار الناس (العرب) يتحدثون بها معهم، حتى بلغ الأمر ببعضهم أن صار (يستنكر) أن يخاطَبوا بالعربية السليمة حتى لو كانت عامية.
بل إني رأيتُ في كلية اللغة العربية - ولستُ مخطئاً في ذكر اسمها- التي هي من محاضِن العربية، أساتذة - مرة أخرى لستُ مخطئاً- متخصصين في النحو والصرف - مرة ثالثة أنا في كامل وعيي، متخصصين في النحو العربي وليس في نحو (ما في معلوم)- رأيتهم وسمعتهم يتحدثون مع العمال الأجانب بلغتهم هذه: (أنت يروح، أنا ما في معلوم) في داخل الكلية- والطلاب من حولهم يغدون ويروحون - وهذه من مآسي المتخصصين الذين لا يعرفون من تخصّصهم سوى محاضرات تؤدّى، وراتب يُقبض. ولا شكّ أن من سوف يتخرجون من الطلاب على أيديهم سيكونون أكثر حفاوة بهذه الهجنة.
ومن الضروري الإشارة إلى أن مخاطبة هؤلاء بلغتهم الهجين ظنّاً بأنهم لا يفهمون بغيرها، ناتج عن وهم كبير؛ والدليل على هذا ما نعرفه عن طرق اكتساب اللغات بالمحادثة، وما نراه من عمال يتحدثون بلغة لها حظٌّ من السلامة؛ لأنهم عاشوا مع بعض كبار السن ممن لا تميل أشداقهم بالهُجنة، وممن يستنكفون أن يتحدثوا بغير ما يعرفون.
وبعد: فهل من سعي صادق للقضاء على هذه الظاهرة؟ هل أوجدت الدولة - ورقعتها الجغرافية هي مهد العربية- من الوسائل ما يجفّف منابعها ويقضي عليها؟ بل هل المسؤولون في الوزارات المعنية يشعرون بخطرها؟ مع أني ألتفت الآن وأتأمل باحثاً عن الجهة التي تُناط بها مسؤولية الحفاظ على اللغة فلا أجدها، وهذه مشكلة أخرى، ولا أجد عذراً لبلادنا - وهي ما هي- أن تكون من أضعف البلدان العربية في العناية باللغة والاهتمام بها. وألا يكون فيها جهة عليا تشرف على كلّ ما يتعلق باللغة نشراً لها وحفاظاً عليها.
إن أمر (العربية الهجين) يتصل أيضا بموضوع (مستقبل العربية) في الخليج بخاصة، وهذه قضية خطيرة جداً، وعروبة بعض دوله مهدّدة بالانقراض، في هجير الشغف بكل ما هو أجنبي، وفي زوابع العولمة وغبارها.
وحيث إن طرح هذه المسائل يجب أن يشفع بالرأي؛ أعرض في هذه المقالة الموجزة مشروعاً كنت قدّمته للزملاء في مجلس إدارة الجمعية العلمية السعودية للغة العربية - وكنت عضواً فيه- وهو كفيل- إن تحقق له التطبيق الدقيق، والرعاية الكاملة من وزارتي الخارجية والعمل- بالقضاء على هذه اللغة الهجين. وقد تحمّس له بعض الزملاء في الجمعية، ولكن يبدو أن انتهاء دورة مجلسنا عطّلت النظر المتأنّي فيه. ولعل أعضاء مجلس الإدارة الجديد -برئاسة الأستاذ الدكتور أحمد السالم- يعيدون النظر فيه وفي جدواه من جديد، ويبادرون بمخاطبة وزارة الخارجية ووزارة العمل للشروع فيه.
و أهداف المشروع يمكن أن توجَز فيما يلي: الإسهام في خدمة العربية بإيجاد موطئ قدم لها في البلدان غير العربية. وإعادة الاعتبار للغة العربية وزيادة الاهتمام العالمي بها. ومحاربة ظاهرة (العربية الهجين) التي تشيع بين العمال، ويسايرهم في التحدث بها العرب من السعوديين وغيرهم. ونشر العربية الصحيحة بين العمال الذين ينتمي أكثرهم إلى بلدان إسلامية. ومن ثمّ نشر ثقافة التخاطب بالفصحى معهم، مثلما هو الحال مع طلاب المنح الدراسية. وتوفير فرص عمل للمتخصصين في تعليم العربية، وبخاصة من يجتاز دورات في تعليم غير الناطقين بها.
وينقسم المشروع قسمين: القسم الأول: تدريب العمال الموجودين في المملكة. وسُبل التنفيذ هي على هذا النحو: أولاً: تلزم وزارة العمل الشركات والأفراد بإلحاق العمال الذين تحت كفالتهم بدورات مكثفة في تعليم العربية. ثانياً: تشرف الجمعية العلمية السعودية للغة العربية بالتنسيق مع معاهد البحوث والخدمات الاستشارية في الجامعات ووزارة الشؤون الإسلامية على إعداد الدورات وتنظيمها. ثالثاً: تتولّى مكاتب توعية الجاليات استضافة الدورات؛ للإفادة من خبراتها في هذا المجال. رابعاً: التنسيق مع معاهد تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها لإعداد المناهج والكتب الدراسية المؤلّفة لغير العرب. (يُلاحظ أن هذا الشطر من المشروع مؤقّت في حال القدرة على تنفيذ الدورات الخارجية المذكورة في القسم الثاني).
القسم الثاني من المشروع: تدريب العمال على العربية قبل قدومهم إلى المملكة، وهذا الأم ر واقعي جداً، وهو ما تأخذ به كثير من الدول المتقدمة إذ تشترط لمنح التأشيرة معرفة لغة البلد، وفي هذا الصدد أذكر أن هولندا أمهلت الأجانب المقيمين على أراضيها ستة أشهر لتعلم الهولندية، وإلا طردوا منها. فلنتعلم من الهولنديين شيئاً من الوعي اللغوي.
وسبل التنفيذ على هذا النحو: أولاً: تنسّق الجمعية العلمية السعودية للغة العربية مع وزارة الخارجية ووزارة العمل من أجل عقد دورات مستمرة في البلدان غير العربية التي يكثر الاستقدام منها، مثل باكستان، وبانجلادش، والهند، والفلبين، وإندونيسيا، ونيبال، وتركيا... الخ، ثانياً: استصدار قرار من الجهات المختصة بالاستقدام (الخارجية، العمل) يُلزم كلّ من يريد العمل في المملكة من غير العرب باجتياز دورة تأهيلية تمكّنه من التحدث بالعربية. ثالثاً: يُجعل اجتياز دورات في اللغة العربية شرطاً أساسياً من شروط منح تأشيرة العمل. رابعاً: تكون الدورات في مقارّ السفارات السعودية في البلدان المذكورة، أو في الملحقيات الثقافية- إن وُجدت-. خامساً: تشرف السفارات على تنفيذ الدورات ومتابعتها إداريّاً. سادساً: تشرف الجمعية العلمية السعودية للغة العربية على تنفيذ الدورات عمليّاً، بالتنسيق مع الجهات الحكومية المذكورة. سابعاً: يُنسَّق أيضا مع وزارة الشؤون الإسلامية للإفادة من خبراتها في عقد الدورات الخارجية. ثامناً: يُجعَل ضمن شروط الالتحاق بالدورات دفع رسوم رمزية؛ من أجل ضمان الاستمرار، وتفادياً لإخفاق المشروع إن لم يُدعم مادّياً. تاسعاً: تُنَظّم حملة إعلامية لشرح المشروع، والدعوة لمؤازرته، وتقديم التسهيلات له. عاشراً: يُضاف إلى شروط استقدام العمّال (شهادة اجتياز دورات في العربية) فلا تُستخرج التأشيرة إلا بعد إثبات أن العامل تجاوز الدورة.
إن الذي يتابع اللغة التي يتحدّث بها طلاب المنح الدراسية في الجامعات يدرك أن بإمكاننا جعل كلّ الأجانب عمالاً وموظفين يتحدثون بها، وهي عربية ميسّرة، تحفظ لنا لغتنا، وتضطرنا إلى مجاراتهم بالحديث بالفصحى.
وهذه الطريقة- إن تحقق لها التطبيق- كفيلة بنشر العربية وإعزاز منزلتها بين اللغات، ثم إنها ستضطرنا إلى محادثة العمال بلغة فصيحة، ولهذا من الفوائد الاجتماعية والتربوية الكثير.
ثمّ إن من فوائدها توفير وظائف لخريجي أقسام اللغة العربية الذين يمكن أن يُنتقى منهم مجموعات متميزة في كل سنة، لتعليمهم طرق تعليم العربية لغير العرب، ومن ثم إيفادهم للبلدان المذكورة لإقامة الدورات.
هذا المشروع طموحٌ بعيد، ولكنه قابل للتحقيق. وأظنني أشبعته إيضاحاً، ولكن بقي في نفسي كلمة أخيرة:
إن العربي حلو كالسكّر، يألف ويؤلَف، ولكنّ (سكّريته) تجني عليه؛ ولهذا يذوب سريعاً، فأهم مشكلاتنا أننا ذائبون، وحتى تكون الأمة حية مؤثرة فاعلة لا بدّ أن تكون كالماء تُذيب ولا تذوب.
د. عبدالله بن سليم الرشيد