حين تواجه حدثاً ما وينجلي كل كثيف يغطيه، أو من حوله ويشدنا موضوعه نحاول تفسيره، ومعرفة الأسباب التي أدت إليه، أو تعاونت على تشكيله، هذا ما يحدث داخل عقل الإنسان (من منظور عام لا يتطرق إلى وظائف المراكز بمخ الإنسان).
|
...وهذه العملية العقلية بعد الاستجابة قد كونت تصوراً معيناً يتفاعل مع المشهد بكل أجزائه، وهذا التفاعل متباين لدى الناس، فبعضهم قد لا يعنيه، أو قد لا تعنيه التفاصيل حتى وإن أحس بها.
|
فالقراءة مختلف أمرها بينه وبين إنسان آخر، وهذه العملية العقلية يلزمها فهم وخيال، فأيهما يستجيب كمرحلة أولى وأيهما أهم؟
|
يلي ذلك التفاعل مع الحدث فيحتويه لتتم حالة الاستيعاب بعد الفهم، ومثال على ذلك أن فلانا قد توفي، فالفهم إدراك للحدث، والاستيعاب حالة تحيط بالتفاصيل وفق الممكن، يلي ذلك دراسة الأبعاد المتعلقة بالحدث كيف ولماذا ومتى..؟
|
فتلك الحالة استدعت فهماً، ثم استيعاباً يناقش الأثر الذي خلفه، وكذلك الحالة النفسية التي تكونت كرد فعل لفهم الحدث، حيث يحاول أن يتعامل مع الحالة النفسية وكل الأحاسيس التي تشكلت كمحصلة لما حدث، ولدى فئة محدودة يلحق بهذا مقدار من الخيال الإيجابي الذي تأتي معه في بعض الأحيان حالة الإبداع، التي تركز على تفاصيل الحدث والناتج عنه، حيث تجيب على السؤال فيستنتج القواعد والمعادلات والأسباب بالوسائل والغايات.
|
إن ذلك السؤال قد يطرحه الإنسان على نفسه في أمور كثيرة تتداخل وتختلف في طبيعتها، وما يلحق بها من سؤال، وكذلك الجواب عليه على أن يكون واضحا أن الفهم متفاوت بين الناس، وأن الخيال منطقة يأتي الإبداع منها.
|
ومن طبيعة الخيال الذي يلح معه السؤال ويصاحبه تفكير عميق أن يكون الناتج هو الإبداع، ولنأخذ نيوتن كمثال قد يساعد على إيضاح هذا الاجتهاد، فقد فهم ان شيئا قد سقط من أعلى على الأرض، وتابع بعد الفهم والاستيعاب حواره وسؤاله مع المشهد ما بين سؤال وجواب منطلقه الموضوعية، وبذلك بدأت ملامح نظرية الجاذبية الأرضية (والحديث عنها وتفسيرها كفعل يعترض الأشياء قبل اصطدامها بالأرض الموضوع لاحقاً) فينطلق الخيال ليرسم محصلة لهذا الحدث قد ينتهي بقصيدة، أو بنظرية علمية، أو شيء من ذلك، وقد لا يحدث شيء من هذا، فلا قصيدة ولا نظرية، وحاضر المشهد شاهد على الحدث له رؤية في ذلك تؤكد ما لذاته من حضور بحيوية تواجدها.
|
فالإبداع واستنتاجه مرهون بحالة الخيال التي تتكون من الحدث، والقدرة على قراءة الأبعاد وتفسيرها، فالعالم نيوتن ليس أول من شاهد الشيء وهو يرتطم بالأرض، لكنه أول من طرح السؤال حول وجهة وتوجه هذا الشيء فسقوطه من أعلى إلى الأسفل، أو أن يتوجه بما يزيد به علوا، أو أن الشيء يُبقي أثراً مختلفاً حين الارتطام.
|
وهكذا فالإبداع في هذه الحالة بدأ بسؤال، وكانت الإجابة عليه بعد حين نظرية علمية، والمشهد يتكرر حين يشد الإنسان تفاعلاً ما مع منظر يراه جميلا فتأتي القصيدة إذا كان شاعرا، أو يعبر عن هذا بإحساس وشفافية تنتظم في نثر، أو تفسير لحالة من رد الفعل بما أثر به المشهد على نفسه وولد من أحاسيس ومشاعر.
|
فالشاعر عبدالله بن سبيل قال كرد فعل لشيء رآه وأحس به قصيدة مطلعها: (1)
|
مالوم يا نفس عن الزاد معطاه |
والماي ما يبرد لهيبه بروده |
يا تل قلبي تلتين من أقصاه |
تل الوراد إللي حيام وروده |
الزين يرعاني بعينه وأنا أرعاه |
والكل منا ما يبيح سدوده |
بهذه القصيدة التي اختصرت رد الفعل والكثير من التفاصيل عبّر الشاعر عما تكوّن لديه من إحساس، وما هذه الأبيات إلا محصلة لمشهد لم تكن حضوراً فيه، ولا اعتراض لنا عليه، ولكن أحدنا نقل القصيدة فتكرر تردادها، وبهذا ومع تكرار ما يشبه الحدث بإمكانه ومكانه تتكون محصلة في معظم الأحيان لتكون المصمم لنظرية علمية، أو أحاسيس أخرى، مثل القصيدة أو لقول يخلد مع الزمن بحكمة ما احتوى.
|
فمنبع الشيء عمق النظرة إليه، وما يصاحبه من سؤال كرد فعل لفعل مصدره المشهد الذي يحيط به العقل النادر في القدرة، وما يأتي به السؤال الموضوعي والمهم، فإن اعتبر أحدنا أن الاكتشاف يسير وبعامله يتبعه الإنسان وفق الصدفة أو بإلحاح ظروفه وذلك بلهفة واندفاع أو متى فرضته عوامل تمكن منها، أما الاختراع فليس من قدرة الإنسان، وبذلك يصبح ما اعتبر، وصار الاعتبار للعبقرية تأكيدا.
|
أميل إلى أننا نكتشف وجوداً لموجود، لخالقه مواصفات في القدرة، لا يملكها إنسان، وهو من يقرر ويشاء إنها القوة المطلق قدرتها يؤكدها ما في الإنسان من عجز وقصور وضعف.
|
|
|
(1) عبدالله بن خميس، كتاب (من القائل)، ج2
|
|