Al Jazirah NewsPaper Tuesday  20/10/2009 G Issue 13536
الثلاثاء 01 ذو القعدة 1430   العدد  13536
الجزء الثاني والأخير
طبيب الثقافة يفتح قلبه لـ«الجزيرة»: الهجمة النبطية وشاعر المليون غيبا الشعر

 

حوار - محمد بن عبد العزيز الفيصل

أيام وأيام وليالٍ ممزوجة بعبق جدة الرطب تحكي بصدق وإخلاص عن ابنها البار عملاق جدة، الذي ظل مخلصاً لها فلم تنسه السنين والأزمنة المتقلبة حارتي البحر والشام ولا حتى برحة (الكدوة) أو مقهى (الكحيلي)؛ عندما أستمع إلى الدكتور عبدالله مناع وهو يحكي ذكرياته في تلك الأماكن والأيام (الجداوية) لا يخطر ببالي إلا ذلك الابن البار الذي يتحدث عن والديه بحذر شديد ويستذكر برقة فضلهما عليه، فلم تكن الأيام التي عاشها د. عبدالله كغيرها من الأيام.. فكان هذا الحديث العذب هو صدر الحوار الذي أجريته مع (طبيب الثقافة)، والذي كشف فيه عن حبه للقب (الكاتب الصحفي) وفضله على (الطبيب) و(الصحفي)، وعن تجربته الكتابية الأولى بصحيفة البلاد عندما نشرت إحدى مقالاته في الصفحة الأخيرة، وعن مشروعه في مجلة اقرأ عندما وصفها بمجلة (الملاليم) وعن صلته بالتراث إلى أين وصلت..

أبرز ما دار في الجزء الأول من هذا الحوار الشيق الذي تستكمل مسيرة اليوم مسيرتها الحوارية مع طبيب الثقافة د.عبدالله مناع؛ فإلى نص الحوار..

* بعد انتخابكم نائباً لرئيس أدبي جدة بيوم واحد قدمتم استقالتكم من عضوية النادي.. هل لي أن أعرف سبب ذلك؟

- استقلت في ذات الليلة.. بعد ساعتي الاجتماع التعارفي الأول لمجلس الإدارة الذي شكلته وزارة الثقافة والإعلام، لفرط دهشتي.. مما جرى فيها وكأنه معد مسبقاً!!

* في كتابكم (بعض الأيام بعض الليالي) استرجعتم أيام الخمسينات والستينات الميلادية بجدة وأشرتم إلى أنها قصة حياة بأحزانها المتدفقة وأفراحها المنزعة.. فما هو الدافع الأكبر لتدوين هذه السيرة الحزن أم الفرح؟

- ليس الحزن.. وليس الفرح، ولكن تقديم (التجربة) بأحزانها الكثيرة وأفراحها القليلة.. مع تقديم باقة حب وعرفان لمدينتيَّ: جدة والإسكندرية.. ولكل أولئك الذين ساعدوني ب(كلمة) أو (ابتسامة تشجيع) بدءاً من الأستاذ عبدالعزيز الدَخِيل - موظف أو مسؤول العلاقات العامة بفرع شركة أرامكو في جدة - الذي تنبأ لي - في سنوات الإعدادية - بأني سأكون أديباً.. إلى الأستاذ فؤاد الشربيني مدرس اللغة العربية في (التوجيهية) الذي طلب مني قراءة موضوع الإنشاء الذي كتبته باعتباره أفضل المواضيع التي قُدمت له في تلك (الحصة).. إلى معالي الأستاذ عبدالعزيز السالم - متعه الله بالصحة والعافية - الذي فاجأه وجودي في إعدادي طب الإسكندرية، فتعهد بنقلي إلى كلية الآداب.. في العام التالي، ولم يتمكن من العودة إلى الإسكندرية في العام التالي.. إلى الأستاذ عبدالعزيز فرشوطي - حفظه الله - الذي سدد عني مساهمتي في مؤسسة البلاد ولم يطالب بها ولم أسددها.. إلى الأستاذ عزيز ضياء الذي أسماني في أول حديث صحفي تجريه معه صحيفة الرياض (وجه البقشة)، وإلى - قبل كل هؤلاء - (العم) سليمان أبو شحم (فحَّام) الحارة، الذي كان يسمح لي في سنوات الابتدائية بالجلوس على دكة (الحنية) في شهور الصيف، ومات دون أن يعلم ما آل إليه أمر ذلك الطفل.. وإلى (المعادي) نجَّار الحارة (الباوا) الذي كان يشاركنا اللعب في نادي شبيبة الهلال البحري في سنوات (الإعدادية)، ويناديني تقديراً.. ب(الأستاذ).

(معذرة للقراء ولك يا عزيزي المحرر.. فقد حملني سؤالك على ذكر ما كنت أتجنبه.. حتى بدوت كالديك الشركسي الذي لا يرى لصياحه مثيلاً.. أو (عم شاكر) الذي يقول مثلنا العامي في السخرية به: (عم شاكر روحه.. يسلم عليك)).

لقد تقاسم حياتي - بعد التخرج من الجامعة - دون شك كثير من الحظ.. وقليل من التعاسات.. إلا أن الأحزان القديمة بقيت هاجعة في القلب وحناياه، وأحسب أن ذلك كان واضحاً في قصة ذلك (اليتيم) - الذي كنته - والتي روتها صفحات كتاب (بعض الأيام.. بعض الليالي).

* دخلتم كلية طب الأسنان بالإسكندرية تضامناً مع نصيحة والدتكم -رحمها الله- عندما قالت لكم: (يا بني إن الكتابة والأدب ليس بالضرورة أن يتعلمها الإنسان في الجامعة، ولكن الطب لا يمكن لإنسان إلا أن يتعلمه في الجامعة إذا أراد أن يكون طبيباً)، بعد كل هذه السنين وهذا المشوار الطويل أين تقف من هذه النصيحة؟

- كانت النصيحة (ذهبية) دون شك.. ولكن يبدو أنني لم أكن من عشاق الذهب منذ البداية. إذ إنه وكما قيل: كل ميسرٌ.. لما خُلق له..!!

على أن تلك (النصيحة) لم تكن هي الأولى أو الأخيرة.. إذ جاءت بعدها نصيحتان من ذات الوزن، سأذكر واحدة منهما - راجياً.. أن تعفيني من ذكر الثانية - عندما سألتني (والدتي) وقد وجدتني منهمكاً في مكتبي بالساعات الطوال: ما الحكاية؟ فأخبرتها.. بأنني اتفقت مع (الإذاعة) على تقديم برنامج يومي بعنوان (قرأت. سمعت. تأملت).. أتحدث فيه عن بعض قراءاتي السياسية والأدبية، وأن الإذاعة طلبت مني خمس حلقات كنماذج.. لتتعرف على عينات مما سأقوله..؟ وقد رأيت - شخصياً - أن من حق (الإذاعة) أن تطلب ذلك.. فالبرنامج سيذاع على الهواء مباشرة دون تسجيل مسبق، ولكن والدتي.. رمقتني بنظرة استنكار وهي تسألني: وهيّ الإذاعة.. لا تعرفك حتى الآن..؟! فكان سؤالها.. واحداً من أعظم نصائحها، لأقوم بعد أن انتهيت من إفطاري معها (وقد كانت تلك عادتي قبل وبعد الزواج).. إلى الهاتف، لأتحدث مع مدير عام البرامج الأستاذ حسين خزندار.. معتذراً عن تقديم البرنامج إذا كان شرطاً تقديم نماذج له.

لقد كانت والدتي (أمية) لا تكتب وقد توقفت قراءتها للقرآن عند محاولتها حفظ سورة (البينة)، ولكنها كانت واعية.. تملك ثقافة سمعية من طراز عجيب، ولو أنني أخبرتك بنصيحتها الأخرى.. لربما قلت لي بأنها أستاذة علوم سياسية..!

* قال عنكم الأستاذ عبدالمقصود خوجة: (إنه المتْعَب.. والمتْعِب.. متعَب بما ينوء به كاهله من تمسكه بمبادئه وأخلاقياته لدرجة أنني أحس بالتعب عنه، ومُتعِب لأننا نحن زملاءه نحس بالالتزام أمام ما نراه من سلوكياته).. فما تعليقكم على ذلك؟

- أعتقد أن الصديق العزيز الأستاذ عبدالمقصود خوجة.. لامس الحقيقة أو قاربها أو عبر عنها بأسلوبه، فهو يعرفني تماماً.. وقد امتدت صلة الصداقة بيننا لأكثر من ربع قرن.. تغلغلت خلالها إلى كل التفاصيل التي تجمع بين شخصين متحابين متفقين ومختلفين عن بعضهما، وإن كنت لا أذكر متى قال رأيه هذا في شخصي.. إلا أن رأيه هذا يذكرني بقول أخي الكاتب الموهوب والصحفي غير المحظوظ الأستاذ عبدالله سلمان الشهري عندما قال عني بعد مغادرتي الأخيرة ل(مجلة اقرأ) ومجيء ثالث رئيس تحرير لها الأستاذ يحيى باجنيد: (يؤلمنا.. حين يسكت، ويؤلم نفسه.. حين يتحدث)..! ولقوليهما.. أقدم عظيم احترامي.

* ما هو أصعب موقف اتخذتموه في حياتكم؟

لم أتخذه.. بعد؟!

* ما هو تقييمكم لما يطرح في الساحة الثقافية؟ وكيف تستقرئون مستقبلها؟

- هناك حراك ثقافي يبدو ضخماً في ظاهره.. ولكن (طحن) هذا الحراك لم يكن بذات (الحجم) ولا ب(القيمة) المرجوة منه. فإذا قلنا إن الثقافة في عناوين مكوناتها الأساسية هي: المسرح، والرواية والقصة القصيرة والشعر، والسينما.. والموسيقى والأغنية، والفنون الشعبية.. تراثية أو معاصرة، والتشكيل بلوحاته ومنحوتاته والفوتوغرافيا ب (كأميراتها) ولقطاتها.. فإننا نرى أن ذلك الحراك لم يمتد لكل هذه المكونات، بل ودخل فيما أسميه بالمبالغات التعويضية كالحديث مثلاً بأكثر مما يجب عن (الفن التشكيلي) وكأنه أبُ الفنون جميعها.. بينما الأب الحقيقي لكل الفنون هو (المسرح) الذي لم يعش ذات الحراك.. ولم يُعتنَ أو يحتفَ به ذات الاحتفاء.

على أن النغمة الأعلى في طحين هذا الحراك.. إنما كانت ل(الرواية)، عبر.. هذا الكم الهائل من الروايات التي لا أظن أنها قرئت بذات الحماس والاندفاع في كتابتها، لتبقى على الذاكرة منها روايتا: (شقة الحرية) ل(القصيبي).. قديماً، وثلاثية: (أطياف الأزقة المهجورة) ل(الحمد).. وسطاً، وقد تألق فيها جزؤها الثالث والأخير (الكراديب).. بجرأته وشجاعته السياسية وليس بفنية بنائه، لتلحق بهما حديثاً.. رواية (بنات الرياض) ل(رجاء الصانع) لتكنيكها الجديد الذي اعتمد لأول مرة على رسائل ال(إي ميل) في بناء دراما حياة الفتيات الأربع.. أبطال الرواية، مع الاعتراف بأنني لم أقرأ نصف ذلك الكم الهائل من الروايات.. ف(انتقائيتي) كانت تحكمني.

لكن المؤسف.. أن (الشعر) غاب محلياً عن هذا الحراك.. فلم تشهد الساحة الثقافية أمسيات شعرية ملفتة، ولم نقرأ دواوين شعر جديدة تستحق التوقف عندها، وهو ما يجعلنا نتساءل ونحن نتمنى إبلال شاعرنا الجميل (الثبيتي) من مرضه وعودته إلى دوحة الشعر مغرداً: أين (العلي) و(الصيخان) و(الحليت) و(الدميني) و(بن جبر).. وأمثالهم..؟ لكأنهم انسحبوا من المشهد.. أو أخلوا مقاعدهم بعد غياب الشعراء الكبار من أمثال (السرحان) و(الفقي) و(القرشي)..؟

ربما كان سبب الغياب هو هذه الهجمة (النبطية) ومهرجانات شاعر المليون التلفزيونية الصاخبة التي تثير الإشفاق بأكثر مما تثير الإعجاب.

وربما كأن غياب الشعر محلياً.. هو الترجمة لغيابه عربياً بعد موت فرسيه الأشهبين: (نزار) و(درويش).. لكن الأمل يظل باقياً طالما أن هناك بطوناً تلد.. وصدوراً تحلم.. وأقلاماً تشرع، ف(الشعر).. هو (لؤلؤة) الأدب العربي وجوهرته الخالدة.

على أية حال.. لم يكن حظ الموسيقى والغناء من هذا الحراك.. ليختلف كثيراً عن حظ المسرح.. المؤسف، إلا أن (السينما) كان حظها.. كحظ الرواية عبر هذا الكم الكبير المفاجئ من الأفلام السينمائية القصيرة والمتوسطة التي أمكن إنتاجها وإخراجها وتمثيلها وتصويرها على يد شباب سعوديين ممن أحبوا ويحبون السينما ويحلمون بوجودها.. رغم الاعتراضات والجدل الذي مازال يثار حولها هنا وهناك بين الحين والآخر، والذي أتطلع لأن يحسم لصالحها في النهاية.. عندما نحتفي بإقامة دور العرض السينمائية الأولى في كل من الرياض والدمام وجدة.. بداية.

تنويه:

ورد في الجزء الأول -السيرة الذاتية- ان الدكتور مناع عضو بمؤسسة البلاد للصحافة والنشر والصحيح انه لم يعد عضواً فيها لذا جرى التنويه.




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد