قبل عملية الاغتيال الفاشلة كان هناك مَن له رأي في طريقة محاصرة الإرهاب، خاصة من أولئك الذين لا يهمهم علاجه، قدر ما يهمهم (نفي التهمة) عن أنفسهم، ومن يمثلون. الآن أسقط في أيدي الذين كانوا يذبون عن (التشدد)، ويدافعون عنه، وينفعلون عندما نجعل علاقة (الإرهاب) بالتشدد كعلاقة السبب بالنتيجة. دفاع بعضهم عن التشدد سببه أنهم مستفيدون منه، ويستمدون قيمتهم، بل وسبب وجودهم، ومكانتهم الاجتماعية، من كونهم رموز تشدد. وهناك رأي متغلغل في أوساط غلاة المتشددين، فحواه أن (التمييع) هو العدو الذي يجب أن يهاجموه ضمن المفاهيم التي اعتاد خطابهم على مهاجمتها؛ و(المُميّع) في أعرافهم وقواميسهم هو الذي يرى (التسامح) مع المسلم الذي تختلف معه، و(التعايش) مع غير المسلم الذي تتعامل معه. والمتشدد يتلمس في تعاملاته، وفي (فتاواه)، التعسير أولاً قبل التيسير، والتحوّط قبل الإباحة؛ ولا يهمه بعد ذلك جلب مصلحة مؤكدة لا يختلف عليها اثنان، قدر اهتمامه بدرء (مفسدة) وإن كانت بعيدة الاحتمال.
والمتشددون من (الخاصة) لا العامة رجلان : رجل متشدد عن قناعة، وينطلق في تشدده عن رؤية - وإن كانت ضيقة الأفق - يُبرر بها تشدده؛ ولا يهمه أن (يستفيد) من مواقفه المتشددة؛ فهذا لا تملك إلا أن (تحترمه) وان اختلفت معه، فهو يُعبر عن قناعاته التي يؤمن بها أشد الإيمان؛ وهو في رأيه (محتسب)، ويبرر لنفسه أنه في آخر الزمان، والقابض على دينه كالقابض على جمرة؛ ويرى أن تشدده تمسكٌ بأهداب الدين.
أما الرجل الثاني فهو صاحب (منفعة) في الدفاع عن التشدد. يعرف في قرارة نفسه أن الإسلام دين تسامح وتيسير على الناس، وأن التشدد والغلو أخطر على الإسلام من ألد أعدائه و(القاعديون) أدق دليل؛ ومع ذلك يصر على التشدد، ويحاول في أقواله - وليس ممارساته - أن يُبرر له، ويُقعّد، و(ينتقي) من النصوص ما يدعم (التشدد) ويسوغ له؛ وإذا نظرت إلى حياته، إلى ممارساته، إلى بيته، إلى تعاملاته، إلى أهله الأقربين، وأحياناً إلى أقواله في مجالسه الخاصة في لحظات (التجلي)، تجده من غلاة (المتسامحين)؛ وفي تقديري أن النوع الثاني أخطر من النوع الأول؛ فهم يعطون الانطباع لغير المتقصي، والعارف ببواطن الأمور، أن التيار المتشدد هو المسيطر، وأن مزاج (السعوديين) يميل إلى التشدد والغلو أكثر من ميله إلى اللين والتيسير والتسامح و(التعايش) مع من تختلف معهم مِن كل الأطياف؛ مع أن العكس هو الصحيح.
وهؤلاء الذين يعتبرون ثقافة (التشدد) للتصدير إلى الخارج، وليست للاستعمال (المنزلي)، هم السبب الأول والرئيس الذي جعل ثقافة (التشدد) الداعمة للإرهاب تأخذ أكبر من حجمها الحقيقي. وهم - بالمناسبة - يظنون أن بإمكانهم (تمرير) التناقض بين القول والممارسة دون أن ينتبه الناس؛ وهذا الظن ضربٌ من ضروب (الغفلة)، فالناس - ربما - لا يواجهونهم بما يعرفون، إنما هم أكثر الناس انكشافاً أمام الآخرين.
ونحن عندما نحتفل اليوم، ونهنئ بعضنا بعضا بنجاة سمو الأمير محمد بن نايف من محاولة الاغتيال الحقيرة لابد من أن نجعل من الصراحة، والقول المباشر، وعدم المواربة، ديدناً وأسلوب تعامل في تناول ونقاش مشكلاتنا؛ فقد بلغ السيل الزبى أيها السادة. إلى اللقاء.