بفكره ومن نفسه يضعنا أمام مشاهد من حيوية الفكر وقدرته التي يتأكد معها أن تجارب المسير فعل وتفاعل ونتيجة يحلل الوعي إبعادها والظروف التي أحاطت بالنفس مع كل تجربة من تجارب الحياة فهي عابرة لدى البعض ولدى البعض الآخر كتاب لابد أن يقرأه بتأمل وتحليل حيث
|
الوعي قد يحرك ويضيف ويعدل وفق الحس الإنساني السليم بتطوير المعطيات الإنسانية كركيزة لبنية حضارية إنسانية من غير أي تجاوز لشيء من سنن الحياة لتصبح مرجع للفكر العملاق في جانبه الإنساني الذي أحاط بكله روحانيات من النبع الذي لا ينفد لينطلق عمار البناء شيء من الفكر الإنساني الذي هدفه الإنسان. وهكذا كان فهو المحرك لخلجات نفسه والمنطلق لبنات أفكاره.
|
فتكاد أن تحسب أو تظن أن المصدر هو كائن غير أرضي لما احتوى من بعد في النظر، وحكمة في الفكر يؤيد ذلك تجربة أنضجتها مراحل متوالية من السنين غير محسوبة على منهاج تعليمي طابعها التأمل والاستنتاج من السابقات واللاحقات من ما نثره وجدان الحياة على الحياة بنقاء وطهر لم تدنسه الصاعدات من ظلمات حضيض النفس فأتت الرؤية أبعد من كل ما تمهد له من رشد وروعة فمعينه ذلك التراكم من تجارب السنين وما مارسه العقل من وعي يفحص بالبصر اللماح والبصيرة كل مركب إنساني جاء بتجربة أو أثبت وسيلة تساير حركة الكون أو من خلال التفاعل بين الإنسان والحياة.
|
فالإنسان بمكوناته التي عرفت في بعضاً منها (من النزوات إلى الحكمة) منطلق لفكره فصاغ التجربة بما تمليه الحكمة والنضج وذلك لنفسه لكنها أصبحت من رصيد معارف لمن أرادها عون على المسير، إن المقصود بالحياة كما استنتج أن مكمنه نواميسها وما هي عليه من قانون أراده الحق سبحانه - ومن يلج دروب الحياة ومنعطفاتها لابد أن يلم بمسالك تؤدي إلى مداخل تفتح ما انغلق من أبوابها، فمن حاول أن يلج بلا فقه السنن فقد تزمجر الحياة من أمامه إن أساء وسيلة تناولها، والخاطرة التي أملت على فكر المؤلف حاشيتها ذات طابع إنساني يبرر العرض المختزل فالأمر يرتبط بالمتاح لكل مقال.
|
قال رحمه الله موجهاً الحديث إلى ولده ما نصه: ولدي: قد تقابلك في طريق الحياة روائح كريهة فإذا شممتها على قارعة الطريق أو على هامة إنسان صدئت جمجمته وصارت إلى قدح آسن لم يستقبل قطرات طاهرة من فم غمامة لا تتخلق فيها الديدان والجراثيم، فحاول أن تمد له يد العون فلا تكسر قدحه ولكن حاول أن تنظفه ما أمكنك ذلك، فكسر الأقداح لم يجبر عثرات الإنسان بل ضاعفها وزاد في شقائه فأقداحنا نحن العرب وأقداحنا نحن المسلمين يوم كانت على قمم جبال أرض يثرب وعلى جبال بطحاء مكة مستوية على قمة الجبل، كانت ورداً للظامئين وللحائرين على هذه الأرض فلما:
|
تشابهت البهائم والعبدَّى |
علينا والموالي والصميم |
كما قال أبو الطيب حملت أكثريتنا نحن العرب والمسلمين الأحجار، وحطمت الأقداح أكبادنا يوم انتثر ماء الحياة فوق الرمال!).
|
وفي موقع آخر من الرسالة يوجه رحمه الله استنتاجاً فيقول: (ولدي: ما أكثر أوهامنا! وما أرق تربتنا! إذا حاولنا أن ننسج ثياباً لستر عوراتنا جاء النسيج في عقده وفي أصوافه متلبداً قابلاً للاشتعال عند رائحة الثقاب.
|
يدنيني التفاؤل من الحياة ويقصيني التشاؤم حين أقص أثر الإنسان منذ آلاف السنين أو ملايينها فينتهي بي القص إلى حافة القبر، وعلى مدخله لا أدري ماذا أفعل؟
|
أألحق به وهو مغلق ومطبق فمه بالصمت فأنادي وأرفع الصوت لمن بداخله؟
|
ولدي: هذا تصور لبدوي أضجرته الوحدة والغربة، باعدت بينه وبين أٌلام الآخرين مسافات لم تستطع معها أقلامهم أن تخط في دفاتره وفي جمجمته تصوراتهم، فاختار لنفسه جلساء من الطير ومن الطبيعة في الصحراء).
|
كما يقول: (ولدي: لا تبتعد ولا تذهب بعيداً عن فطرتك وعن عفوية الخاطر، لا تهجر الصحراء، لا تحرق الخيمة، إذا أمطرت السحب على قمم الجبال وأرسلت في قلب الوادي مياهها العذبة تتهادى في خيلاء السحب الثقيلة التي أنزلتها في كبرياء عظمة الله فاركب جملك إلى الصحراء واضرب خيمتك على جناح الوادي واغتسل من مياه الغدير فهو قريب من السماء قريب من الله.
|
تذكر دائماً أنك عربي نزيل من آلاف السنين بين جبال أجا وسلمى وجبال اليمامة، ونطالع في الكتاب أيضاً ما نصه: (ولدي: تذكر أيضاً ما عناه الشاعر):
|
إذا خانك الأدنى الذي أنت حزبه |
فوا عجباً أن سالمتك الأباعد |
نعم، تذكر أنك عربي، وعمق العروبة في نفسك واخرج بها من الضيق إلى السعة ومن العصبية الذميمة إلى الروح الإنسانية المتسامحة.
|
ولدي: من ير اليوم حال أهلك العرب، من ير نوع حياتهم، وسلوكهم وأخلاقهم، فقد يتهم العروبة وقد يكفر بها، وقد يعاديها، وقد يذهب عنها بعيداً إلى عالم الشرق والغرب، وهذا أعظم الخطر، وهذه هي المأساة التي أخشاها عليك وعلى كل شاب قد لا يجد القدوة المثلى في قومه وأهله!
|
ولدي: أأبني لك من خيالي أهرامات من الرمال تنهار وتذروها الرياح عند أول نسمة تهب عليها؟ أم أهبط الآن من على قمم رمال الدهناء هارباً بك إلى قمم جبال اليمامة العاتية؟ لعلك ممن يحتمل خشونتها ووعورة الطريق إلى قممها، أما أنا فمقعدي الآن بجانب جملي على الصخرة الحادة أسنانها، لن أرحل عنها وأترك الجمل ثاوياً، سأظل بجانبه وفياً له، وإن حملته قوادمه.
|
ولدي: أأبني لك من خيالي أهرامات من الرمال تنهار وتذروها الرياح عند أول نسمة تهب عليها؟ أم أهبط الآن من على قمم رمال الدهناء هارباً بك إلى قمم جبال اليمامة العاتية؟ لعلك ممن يحتمل خشونتها ووعورة الطريق إلى قممها، أما أنا فمقعدي الآن بجانب جملي على الصخرة الحادة أسنانها، لن أرحل عنها وأترك الجمل ثاوياً، سأظل بجانبه وفياً له، وإن حملته قوادمه وخطا، مشيت خلفه، وإن ثوى فلا عذر لي في تركه، سأضطجع بجانبه، فالوفاء هو الطوق الكريم الذي جمل أعناق الرجال الأوفياء بعهودهم ومواثيقهم عبر التاريخ).
|
برؤية انسها انسجام مع ما قرأت، الانسجام الذي يغذي العقل ويؤكد قيمة كريمة طاهرة، الحت رحابتها بالإشارة إلى ما كتب لمن يعرفه ولصيق به تؤكد أن ظاهرة التصنع أو افتعال أمره يكاد أن يكون مستحيلاً فالمشهد تعريه المعرفة، ومن خلال رؤية لا يحملها أسلوب الناقد الأدبي المحترف استنتج أن لهذه الرسالة مقومات، منها:
|
لقد أبحر الكاتب في النفس البشرية بالإشارة أو بالإفصاح، فموضوع الرسالة مزيج من خواطر تلح على عقله وقبل أن كانت ممارسة في فعله أراد أن يهديها إلى فلذة كبده حبا وإخلاصاً وحرصاً على مسيرة مميزة.
|
إن المناخ الذي سهل نمو مثل هذه القيم حيث كانت تميزه طبيعة الناس من حيث البساطة وعمق القيم الذي به قدم كل منهم إلى الآخر بإيثار وتضحية والتزام، ومع ذلك أن قيمة الشيء وبالذات شيء مثل هذا قد يتطلب الأمر لتكون من كنوزنا أن نضاعف الجهد حتى وإن تمنينا مناخاة مثل الذي سهل لهذه المنظومة أن تنمو وأن تكون بعد ذلك أسلوب ممارسة بين الجميع.
|
رحم الله أستاذي وقدوتي أسكنه فسيح جناته إن شاء الله.
|
|