وقفت سيارة الأجرة في (استيشن) القرية بالقرب من سوق (المقيبرة) وهو سوق مشهور لبيع الخضار والفاكهة واللحوم، وكان بمثابة مركز للمدينة آنذاك، حيث يجاوره قصر الحكم ببنائه القديم الذي كان جديداً - آنذاك - وبالقرب منه شارع الثميري المكتظ بالمحلات التجارية لبيع الملابس الرجالية والنسائية، ...
... ويلتقي مع منتصف شارع الوزير الذي كان الشارع الوحيد المميز بعرض أحدث الموديلات وأغلاها، ولا يجد أبناء جيل الثمانينيات الهجرية والتسعينيات الميالون إلى التجديد والتحديث خيراً من هذين الشارعين لإرضاء غرورهم من حيث الزي والأناقة، ويكفي أن يذكر أحدهم أن هذه القطعة من الملابس أو هذا الحذاء قد اقتناه من شارع الوزير أو الثميري ليحظى بالإعجاب والثناء والشعور بضخامة المبلغ المدفوع من أجل اقتنائه!
لم يكن ثمة متسع من الوقت لمناقشة فكرة أين يذهب مع إخوانه بعد أن يؤدي الصلاة في المسجد الكبير لأنه يعلم أنه سيجدهم أو يجد أحدهم لا محالة في المسجد أو قريب منه، ولم يكن أيضاً من سبيل لإعلامهم بمجيئه؛ لأن قريته لم تحظ بعد بالهاتف، فكانت معزولة عن العالم، ولم يصل الإنسان في ذلك الوقت إلى اختراع الاتصال بالهاتف الجوال!!
التفت (الفتى) في عجالة وعدم تركيز إلى يساره فوقعت عيناه على عيادة الدكتور (أبو كمال) المشهور عند أهل قريته، لقربه أولاً من موقف السيارات التي تخدم المسافرين ذهاباً وإياباً من قريتهم وإليها، ولأن هذا الطبيب (الفلتة) لا يعجزه شيء، ولا يستعصي عليه داء! ونظراً لتقدمه في السن، ولطول مكثه في البلاد استطاع استيعاب أدواء البيئة، وفهم كثير من أمراضها المزمنة، وحذق لهجات نجد وطرائقهم وما يقلقهم وما يتوارثونه من علل، فكانوا يجدون لديه الصدر الدافئ والأذن المصغية والكلمة المطمئنة والدواء الناجع الذي تهيأ له النفس قبل الجسد، فتنشط وتتقوى وتنسى العلة التي كانت ملازمة قبل مس يد هذا الطبيب.
تذكر والده في العام الفائت ويده مشبوكة بيده، وهما يصعدان الدرج المنقط للوصول إلى شقة أبي كمال، ووالده لا ينفك من إطراء طبيبه وسعة علمه، والحق أن المسألة قد تجاوزت المراجعة الطبية والشكوى من داء الربو إلى أن تكون صداقة حميمة ذات عرى وثيقة طرفاها مريض يتطلب طمأنينة وشفاء وطبيبا مجربا دمث الأخلاق يجتهد للنجاح في مهنته!
وحتى حين هم والده بالانصراف بعد أن أوصاه بعلاج ناجع عن طريق العضل يدوم مفعوله ثلاثة أشهر قائم على الكورتيزون توادعا وداع الأصدقاء، وكان هذا كافياً لأن يبث والد الفتى دعاية مجانية عن طبيبه في كل مجلس يرتاده، وهكذا تجد الصالة الصغيرة في شقة أبي كمال كل يوم أعداداً غفيرة من أبناء القرية وغيرها ممن يحتاجون إلى علاجه النفسي قبل الجسدي.
دارت في ذهن الفتى الصغير هذه الهواجس وهو واقف بجانب سيارة الأجرة يدفع لصاحبها أجرته التي لم تكن تزيد على عشرة ريالات، وكلماته تجلجل في الناس من حوله: من أراد الرجوع إلى القرية بعد الصلاة على الملك فالموعد هاهنا!
مقهى متواضع بجانب الموقف ينطلق منه صوت التلفزيون الذي كان يبث قرآناً، وشاشة التلفزيون غير ملونة، وإنما بالأبيض والأسود، وهو يتذكر أنه في العام الفائت حين زار أخاه الذي كان يسكن في الزقاق الخلفي القريب من المقهى في حي (دخنة) في إحدى غرف بيت طيني كبير مخصص للطلبة والدارسين الغرباء عن المدينة، وكانت تلك البيوت تسمى ببيوت الإخوان، يتذكر كيف قضى مع أخيه سهرة ممتعة في هذا المقهى على كرسيي خوص وخشب وأمامها برادان من الشاي المائل إلى السواد وهما مشغوفان إلى درجة الانصهار بمتابعة المصارعة الحرة، والجميع من حولهم يشاركهم هذه المتعة الفريدة والهواية الغريبة القائمة على امتصاص غريزة العنف من الإنسان بصورة غير مباشرة واستنفادها في الهواء دون أذى من خلال عنف المتصاعرين التمثيلي!.
أما في مقابل هذا المقهى المتواضع فيفتح متجر كبير على شارعين لا يعرف اسم صاحبه يبيع الأرزاق والمؤن والحلوى والبسكويت، وهو المحطة الأخيرة لأهل القرية بعد أن ينهوا تسوقهم، وينجزوا مهماتهم التي جاؤوا من أجلها، وقد حظيت أسرة الفتى في العام الفائت بنصيب جيد من حلويات هذا المتجر ومأكولاته الخفيفة كالبسكويت وراحة الحلقوم وخدود البنات والبقر وأبو ميزان وغير ذلك.
انطلق (الفتى) مع إخوانه في الزقاق الضيق المترب الخلفي المتعرج الذي يؤدي إلى المسجد، فكان لزاماً أن يعبر هو وصحبه مخترقاً حديقة دوار دخنة الصغيرة، ثم القرى، ثم جبرة إلى قرب البرقية حيث يقع المسجد.
لم يكن (الفتى) يعلم وهو يصل لاهثاً إلى المسجد أن المبنى البعيد على الطرف الشرقي من شارع الوزير الذي يضم كلية اللغة العربية سيكون ملاذه الأول بعد سنتين من الآن حين يخلع صلته بالقرية ويدخل إلى عالمه الجديد في المدينة! ولم يكن يعلم أنه سيخترق الشارع الرئيسي ويمشي على رصيفه الأيسر كل صباح وكل ظهيرة غادياً ورائحاً إلى سكنه الجامعي من كليته، تدفعه عزيمة خفية، وتحث خطاه إلى عالم المجهول رغبات مكنونة محتدمة في البحث عن شيء مفقود لا يعلمه ولم يجده بعد؟.
وصل الفتى والإمام قد كبّر لصلاة العصر، والباب الوحيد للمسجد الفسيح المواجه للإمام مغلق، فلا مفر إذن من الصعود إلى السور والقفز من أعلاه المحمي بأسنة حديد كالرماح مغروزة في أعلى السور، فكادت هذه الرماح تدخل في بطنه وتمزق ثيابه لو لم يحسن القفز، وهكذا فعل أصحابه!
انتهت صلاة العصر.
عرض أحد أفراد الجماعة على الإخوان الذين جمعتهم صلاة العصر اللقاء في شقته القريبة الواقعة في العمارة المقابلة للمسجد، فوافق الجميع مرحبين بالفكرة، وضم أول مجلس للجماعة آنذاك أكثر من عشرين شاباً وقيادياً.
دار الحديث في جوانب مهمة من جوانب عمل الجماعة واستراتيجيتها في أجواء مفعمة بمشاعر غريبة تدفعها عزائم الشباب على العمل المخلص الدؤوب لتمكين الفكر الإسلامي وتكثيف حضوره في المجتمع، والبدء في عملية الإحلال والإبدال، إحلال عضو الجماعة المتصف بالالتزام شكلاً ومضموناً والمعبأ بالرؤى الإسلامية التغييرية محل العناصر غير الملتزمة والتي كثيراً ما تصفها الجماعة بالمنحلة أو الفاسدة أو البوهيمية، وأحياناً بالشيوعية أو القومية أو التغريبية؛ حيث لم يتداول الناس بعد مصطلحات: العلمانية، والحداثية، والليبرالية، وغيرها.
كان تركيز المتحدثين في هذا اللقاء في شقة الأخ (صالح) الواقعة في الدور الثاني من العمارة المقابلة لمسجد العيد: كيف يمكن أن تتم عملة الإحلال والإبدال هذه؟! وبخاصة في المرافق الإعلامية كالصحف مثلاً؟ حيث هي الأكثر خطراً وتأثيراً في صياغة أفكار المجتمع وتوجيهه؟ وتنظر الجماعة إلى محرري الصحف وكثيرين من كتابها نظرة ارتياب وشك، وقد تتجاوز هذه النظرة المتسامحة إلى الاتهام باتخاذ مواقف مسبقة من الدين والمتدينين، وتحديد صفات ذاك الكاتب أو ذلك الصحفي بأنه فاسد، أو شيوعي، أو منحل!.
وفي أثناء هذا الحديث التنظيري المحتدم دخل رجل مليء الجسد قليلاً وألقى السلام سريعاً ثم أكمل دخوله إلى المنزل، فرد بعضهم عليه السلام، وصمت آخرون فسأل الفتى، (صالحاً) عمن يكون هذا؟ لأنه رأى شيئاً من الامتعاض وعدم الرضى كسى وجوه الجماعة، ولحظ أيضاً أنه يبدو حليقاً وغير ملتزم؟!
فأجابه بأن هذا أخوه (م) هداه الله ورده إلى جادة الحق؟! فقال الفتى: وماذا فعل؟ وكيف هو تفكيره؟ أمنحرف هو؟ فأجابه صالح وأمن عليه أعضاء الجماعة بأنه يعمل في الإذاعة وهي تعج بفكر وبأجواء غير صالحة!
ذُهل الفتى لغلبة الفاسدين في كل المواقع! فالصحف كما تصفها الجماعة يديرها بوهيميون منحلون، والإذاعة - كما هو شأن م - تعج في أجواء غير صالحة، والعالم من حوله يكاد يكون كله ملوثاً لولا هذه البقية الباقية من شباب هذه الأمة الحريصة على إحياء القيم الإسلامية، وتكوين الشخصية الملتزمة النموذجية من جيل الشباب الواعد الذي يؤهل مستقبلاً لصنع هوية الأمة وصياغة واقعها الجديد المأمول!
ما دار في خلد (الفتى) المنصت بكل جوارحه إلى هذه الأحكام القطعية على الواقع وعلى الكتاب وعلى الصحفيين وعلى الإعلاميين ان (م) المنحرف هذا سيكون في يوم ما ربما بعد سنتين أو ثلاث من أقرب الناس إليه في عمله، وأنه سيراه على حقيقته مرحا طيبا مستقيما مخلصا في عمله على خلاف هذه الصورة التي ترسمها الجماعة له!
وما دار في خلده أيضا أنه سيدخل بعمق شديد إلى قلب وعمق هذه الأجواء الفاسدة التي تعج بها المؤسسات الإعلامية وأنه يجد صورة أخرى مختلفة كل الاختلاف عن الأوهام المعششة في مخيلات أفراد الجماعة عن الصحف وكتابها ومحرريها، أو عن الإذاعة وإعلامييها!
بَيْدَ أن (الفتى) لا يدري ما قدره؟ ولا ماذا سيكون؟ ولا أين سيغدو؟ أو أين يعمل؟ مستسلم للحظته الأخاذة الراهنة، فهي من تمنحه السكينة والتفسير المقنع لما يجري حوله، وهي من ترى فيه ما لا يرى فيه الآخرون، فهو في نظر الجماعة ووفق رؤيتها الفتى المثقف الملتزم النابه المؤهل المبشر بشخصية قيادية مؤثرة في العمل الإسلامي، على حين لا يرى فيه من حوله معشار هذه الصفات، بل لا يكادون يرون فيه شيئا له قيمة سوى أنه شاب صالح عند بعضهم، ومعقد متزمت عند آخرين، وغريب التفكير متقلب الأطوار ضيق الأفق محدود النظرة عند فريق ثالث!
إذن هو الفتى المحفوف بالإطراء والاحتواء والمحبة عند جماعته؛ فهي من استطاعت الوصول إلى أعماق ذاته، وقدرت على اكتشاف قدراته، على حين جهل الآخرون طموحاته واقتصروا في تفسير شخصيته على الظاهر البين منها، وهو التزمت والتشدد، أو قل: ما يجوز وما لا يجوز، بينما خفي عنهم الجانب الآخر الأكثر عمقاً والأوفر موهبة، وهو الغنى الداخلي بطموحات فكرية عميقة تتجاوز القشرة إلى الجوهر، وتمتد من المظاهر إلى السعي المدروس مع الجماعة لغايات أبعد بكثير عن تفكير أبناء قريته التي لا ترى فيه وفي جماعته سوى أنهم جماعة من المتشددين!
عرض أحد أفراد الجماعة على الحاضرين تجديد اللقاء بعد صلاة المغرب في شقته الواقعة أمام المسجد الجامع الكبير بالرياض، فوافق الجميع شاكرين وانطلق الفتى مع رفقته آخذاً بيده القيادي الكبير لصلاة المغرب في الجامع الكبير الذي كان يغص بالمصلين من رواد الأسواق المحيطة به، ولحظ الفتى ان أجواء إسلامية واضحة تكونت، فقد اتجه الإعلام المسموع والمرئي إلى اذاعة تلاوات من القرآن الكريم، فأشاع ذلك روحا دينية واضحة التأثير في المجتمع؛ فكان الفتى لا يتردد مبتهجا في سماع صوت التلاوة في خفوت حينا ووضوح حينا آخر من السيارات العابرة أو من المحلات التجارية على حافة الشوارع الرئيسية.
كان مضيفهم ينتمي إلى (تركستان) فكان يلقب بذلك، وقبل أن تصعد الجماعة إلى شقة التركستاني عرفهم بأبيه الخياط الذي يعمل في دكان أسفل العمارة، وكانت ملامح الأب الشرق أوروبية لا تخفى، وقد اعتمر عمة بيضاء صغيرة، وارتدى قميصا أبيض وإزاراً مخططاً، ووجهه أبيض مشرق يظهر صحة صاحبه الجيدة بشعرات خفيفة متناثرة على العارضين واللحية.
ووجد الفتى في ضيافة التركستاني وأخيه راحة نفسية عميقة لم يشعر بها من قبل، فقد رأى في تلاقي هذه الوجوه بسحناتها المختلفة وانتماءاتها المتعددة خير ما يطمئنه على نبل اتجاهه الإسلامي، وعلى خيرية الحركة التي ينتمي إليها؛ فلا فرق بين من هو من أصول غير عربية، ومن هو من أرومة عربية قحة، ولا فرق بين من هو على جانب كبير من العلم أو من وجاهة المنصب ومن هو طالب متطلع للمعرفة وللبحث عن آفاق قادمة كما هو شأن (الفتى)؟
وهو الشعور الإنساني النبيل الجارف الذي حف به أعضاء الجماعة الرجل التركستاني المسن والد المضيف؛ حين تحدث بلغة مكسرة مولدة يختلط فيها الحجازي بالنجدي بلغة المولد الأصلي عن اضطهاد المسلمين في أوروبا الشرقية التي تعيش أوضاعاً إنسانية مزرية بسبب اضطهاد الشيوعيين، وتفريق أصحاب المواطن الأصلية إلى بلدان أخرى في المنظومة السوفيتية السابقة لتفتيت العرقيات والديانات.
وتذكر الفتى أنه قرأ شيئاً كثيراً من حديث هذا الشيخ المسن في رواية (ليالي التركستان) لنجيب الكيلاني، وهو أحد المنتمين لفكر الجماعة، وواحد من قدواتها المميزين في فن الرواية الإسلامية الهادفة.
وانعقد اتفاق الجميع على اللقاء في بيت طيني مطلي بالأسمنت، يقع في زقاق داخلي متفرع من شارع الظهيرة، ولم يكن في المنزل ساكن؛ إذ يبدو أنه مهيأ لمثل هذه اللقاءات العابرة للجماعة؛ فتوافد الأعضاء واحدا بعد الآخر، وافترضوا بسطا متواضعة في باحة البيت المضاء بالنور الأبيض التي تبثه عدة نجفات متناثرة على الحيطان الأربعة الملتفة على الباحة، وفي غمرة الاحتفاء والشعور بالتعاضد وسط الحدث الجديد والتغيرات المنتظرة كان صوت الشيخ محمد صديق المنشاوي ينطلق في خشوع وجمال وبروحانية شفافة وعميقة من إذاعة الرياض بتواصل لا يكاد ينقطع.
الله.. الله.. ما هذا الشعور الروحاني الأخوي الذي يعصف بالفتى ويتنقل به من كف مصافحة إلى أخرى، ويدفعه من معانقة أخ له لا يعرف اسمه إلى معانقة آخر لا يدري من هو؟!
شعر الفتى وكأنه لا ينتمي إلى أب أو أم، ولا إلى أسرة أو قرية، فقد انقطع عن العالم كله؛ عن أبيه وعن أمه وعن قريته وأهله؛ هيمنت عليه الجماعة وصاغته والتحمت به والتحم بها، بدليل أنه يرى في هذه الوجوه الملتحية وغير الملتحية، والشابة اليافعة التي لم يكد يتبين فيها العارضان والشارب وغير الشابة ممن بلغوا مرتبة متقدمة من الوعي والثقافة، ومنزلة أخرى لا يفصح عنها في المرتبة القيادية يرى فيها أنه جزء لا يتجزأ منها، وأن أحلامه أحلامها ورؤاها رؤاه، ومصيرها مصيره؛ فماذا قال كبير الجماعة التي كانت على أهبة الاستعداد لاستقباله والاستماع إلى رؤيته وخطة الجماعة؟! وهل يستمر الفتى مندفعاً مع فكر الجماعة أم سينقلب عليها عما قريب؟
(*) عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام - كلية اللغة العربية
Ksa-7007@hotmail.com