يرتكز التكليف الوظيفي على احترام السلطة والإخلاص للوظيفة، وتحمل الأمانة نحوها، علاوة على الاضطلاع بالمسؤولية التي يقتضيها التكليف بشقيه الوظيفي والأخلاقي، وما يعنيه ذلك من إنجاز مهام هذه الوظيفة والوفاء..
|
بمتطلبات طبيعة عملها وتأدية الواجبات والحقوق المرتبطة بها، وكل ما من شأنه تحقيق أهداف الوظيفة وبلوغ غاياتها القريبة والبعيدة.
|
ومغريات المنصب، والهالة التي عادة ما تحيط به، وشخصية شاغله، كلها تدفع أحياناً إلى إحساس شاغل هذا المنصب بشيء من التشريف الذي يكون مقبولاً في أحد جوانبه ومرفوضاً في الجانب الآخر، فالتشريف الوظيفي المنضبط الذي ينسجم مع مستوى المنصب، وتتحكم فيه المسؤوليات الوظيفية والاعتبارات الأخلاقية يبقى أمراً مشروعاً وحالة طبيعية طالما لم يذهب بشاغل المنصب إلى التعالي الممقوت واستحسان الأبهة الخادعة واستغلال ما لا يجوز استغلاله من مزايا الوظيفة وانعكاسات الجاه المترتب عليها.
|
والسلطة والمسؤولية وجهان لعملة واحدة، والثانية تكبح جماح الأولى وتعطيها مفهومها الأصلي، وهاتان الخصلتان من ألزم لزوميات المنصب وأكثرها تأثيراً على شاغله، حيث إن السلطة بقدر ما تفرض واقع التكليف من خلال فرض الإرادة بقدر ما تغذي دافع التشريف الأمر الذي يتطلب وجود المسؤولية لإيجاد التوازنات ومنع التجاوزات، بوصفها صمام الأمان في وجه الدوافع الشاطحة والرغبات الجامحة.
|
وكل من يشغل وظيفة، ويتسنم منصباً يتعين عليه أن ينظر إلى ذلك بأنه أمانة وتكليف وليس امتيازاً وتشريفاً، ومهما علت المناصب وارتفعت المراتب فإنه لا غنى عن التعامل معها باعتبارها خدمة أكثر منها سلطة، كما ان دوافع التشريف والإغراءات المترتبة عليها تزداد في تناسب طردي كلما ارتفع مستوى السلطة وكبر حجمها، وما ينجم عن هذا الأمر من قوة التكليف وضخامة المسؤولية، وما لهما من أثر فاعل على لجم هوى النفس وكبح نزعتها نحو الانسياق وراء دافع التشريف على حساب واقع التكليف.
|
والذي يدرك قيمة الوظيفة ومكان التكليف فيها يجد ان مكان التشريف منها لا يشغل إلا حيزاً هامشياً محدوداً، وان زكاة الجاه وحقوق الوظيفة ومتطلباتها الخدمية والإنسانية تجعل من هذا الحيز شيئاً مقبولاً، خاصة وأن ألم الصبر على تحمل الحقوق ومرارة القيام بها تفرض على شاغل الوظيفة أعباءً إضافية مقابل ما يغدق عليه المنصب من هالة شكلية وقيمة معنوية.
|
والتشريف الذي يحصل عليه شاغل المنصب بحكم منصبه يعتبر ثمرة من ثمار الوفاء بما هو مطلوب منه تجاه الوظيفة، ونتيجة طبيعية للنجاح فيها على النحو الذي يتحقق معه التكليف في مفهومه الصحيح ومعناه الصريح، والتشريف بهذا المعنى يخدم التكليف ولا يتعارض معه مع الأخذ في الحسبان محاسبة النفس الأمارة ومنعها من الانحراف نحو النرجسية والانجراف في وحل التيه، وقد قال الخوارزمي: إنما الولاية أنثى تصغر وتكبر بواليها، ومطية تحسن وتقبح بممتطيها، وقال: إن ولاية المرء ثوبه، فإن قصر عري منه، وإن طال عثر فيه، وكما قال الشاعر:
|
الدهر يفترس الرجال فلا تكن |
ممن تطيِّشه المناصب والرتب |
كم نعمة زالت بأدنى لذة |
ولكل شيء في تقلبه سبب |
والسلطة التي يتمتع بها شاغل المنصب والصلاحية الممنوحة له تضفي على المنصب هيبة ووقارا تبعا لحجمه وشخصية شاغله، والسلطة العليا التي تستند إليها السلطات الأدنى حيث تستمد كل سلطة قوتها من السلطة التي تعلوها بالشكل الذي يلبي دواعي التكليف، ويخدم هيبة الوظيفة ووقار المنصب مع الموازنة والمزاوجة بين التعامل الرسمي وعدم رفع الكلفة وبين الكياسة والألفة.
|
ومبدأ السلطة يحتم على الذي يمثلها أن يشعر بقيمة مهمته كممثل للسلطة، وكمسؤول عن احترام الآخرين لها وانصياعهم لأوامرها، ولا يحق لأي ممثل سلطة أن يتنازل عن شيء منها، بل يتعين عليه أن يحافظ عليها، ويجعلها محترمة ومهابة، وأن يأخذ في اعتباره أنها ليست من ممتلكاته أو مزاياه الخاصة، وإنما هي بمثابة هالة سامية ترتديها خدمته، وتنطلق منها وظيفته، ولابد من فرضها وتحمل مسؤولياتها مهما كان في ذلك ما يحمل غيره على التذمر أو يجعل شاغل المنصب يوصف بالتغيِّر، بسبب أبهة المركز الوظيفي ونخوة شاغله، وما يحيط به من هالة، وقد قال زياد بن أبيه: إرض من اخيك إذا ولي ولاية بعُشر وده قبلها، وقال الشاعر:
|
إذا نلت الولاية فاسم فيها |
إلى العلياء بالحسب الوثيق |
فكل ولاية إلا قليلاً |
مغيِّرة الصديق على الصديق |
ولا تك عندها حلواً فتحسى |
ولا مراً فتنشب في الحلوق |
ويجب أن يواكب المحافظة على لزوميات التكليف الوظيفي التحسب لضبط بواعث التشريف، وذلك عن طريق مراعاة أخلاقيات الوظيفة وقيمها سواء على المستوى الرسمي أو الإنساني، وأن يكون ظاهر التعامل وباطنه منصبين على ما يخدم المصلحة العامة مع الجمع بين الحزم في الظاهر والعطف في الباطن والتوفيق بين المتناقضات في سبيل تحديد الحد الذي تنتهي عنده الحريات الفردية والمصالح الخاصة، وذلك الذي تبدأ منه الحريات الجماعية والمصلحة العامة.
|
وعلاوة على تكريس الخدمة العسكرية للمثل المثلى والقيم العليا فإن التعامل السائد فيها يختلف في بعض جوانبه عن الخدمة المدنية إذ يتفرد بأسلوب خاص ونمط مميز لما يغلب على مهنة الجندية من سلوك منضبط وسمت متزمت، وما يعنيه ذلك من طغيان الطابع الرسمي والعادات العسكرية والتقاليد المرعية على بيئة الخدمة، وقد روي عن الحجاج انه قال: دلُّوني على قائد للشُّرَط، فقيل: أي الرجال تريد؟ فقال: (أريده دائم العبوس، طويل الجلوس، سمين الأمانة، أعجف الخيانة، لا يحنق في الحق على أحد، وتهون عليه سبال الأشراف في الشفاعة).
|
وشرف الوظيفة غال وثمين، وقد تفقد معناها وينهار مبناها إذا ما غاب الشرف أو احتجب الأمر الذي يستدعي من شاغلها أن يصون هذا الشرف بالابتعاد عن كل ما يطعن في جوهره ويخدش مظهره، محافظاً على نظافة اليد وعفة اللسان وسلامة السلوك واستقامة المسلك، مع الأخذ في الحسبان ان الشرف كل لا يتجزأ وان الممارسات غير الشريفة في هامش التشريف قد ينجم عنها تقويض بناء التكليف.
|
وينبغي ألا يغرب عن البال ان حقوق الوظيفة والجاه المترتب على المنصب تجمع بين التكليف والتشريف بالشكل الذي يجعل شاغل المنصب يقطف ثمرة الأول ويدفع ضريبة الثاني على هيئة حقوق تصطدم حلاوتها بمرارتها فالجاه الذي يتمتع به بفضل المنصب لا مندوحة من أن يزكيه، ويبذله لمن يستحق، بوصف هذا الجاه زكاة اللسان، وهو أحد المالين، وقد قيل: ذو الفضل معوان، ويدخل في هذا الإطار الشفاعات الحسنة التي يتعين على كل صاحب منصب أن يقف منها موقف العاقل الذي لا يمنع ممكناً ولا يطلب مستحيلاً، وأعقل الناس أنفعهم للناس.
|
ويعتبر التيه والنرجسية الذاتية من أسوأ الآفات التي يبتلى بها شاغل المنصب، حيث إن ممثل السلطة الذي يتملكه الغرور نتيجة لما يشعر به من تغيِّر في نفسه عندما يتقلد منصباً يحاول دائماً أن يعوض كل ما يحس به من نقص باللجوء إلى ممارسات التعويض السلبية، متخذاً من وهج السلطة وبريق المنصب ونزعة النقص وسائل يُسلط من خلالها الضوء على ذاته المريضة. والمعروف ان من شغل وظيفة وتاه فيها، فإن قدره دونها، لأن الكبار يزيد تواضعهم كلما كبرت بهم المناصب، بحيث يتطورون معها بعيداً عن التيه والتعالي، أما أولئك الصغار فإنهم يجدون في المناصب ما يدفعهم إلى التحرك في دائرة الضوء ويشبع نزعتهم نحو التسلط، منطلقين من حب ذواتهم ومركبات نقصهم وعاهاتهم من جانب، وهامش السلطة التشريفي من جانب آخر بالأسلوب الذي يوفر لهم غطاء يبرر لهم ممارساتهم الهابطة وأهدافهم الساقطة وقد قيل: على حسب التكبر في الولاية يكون ذل العزل، وقال ابن المعتز: ذل العزل يضحك من تيه الولاية، كما قال شعراً:
|
كم تائهٍ بولايةٍ |
وبعزله ركض البريدُ |
سُكر الولايةِ طيبٌ |
وخُمارها صعب شديدُ |
وقد قال أحدهم: الولاية حلوة الرضاع مرة الفطام، وهذا القول قد يقصد به الرضاع المشروع المتمثل في المزايا والفوائد التي يجنيها شاغل المنصب من وظيفته، والتي تعتبر ثمرة من ثمار التكليف وانعكاسات التشريف المبررة، أما الرضاعات المغلفة بغلاف التشريف وهي أبعد ما يكون عنه، تلك الرضاعات ذات الايحاءات التشريفية الممزوجة بطعم السلطة وخمر الجاه، فحدث ولا حرج عن حال أصحابها ومآلهم إذا حان الفطام، وما يعانونه من مرارة العزل عن الوظيفة، وهذا يعني ان حالة الفطام ليست مقصورة على العزل عن الوظيفة فحسب بل يسري مفعولها أثناء مزاولة الوظيفة ويشمل ذلك لجم مغريات الرضاع ومنع انحرافاته وضبط مساره ضمن ضوابط التكليف التي تمسك بزمام التشريف وتجعله في هامشه الصحيح وإطاره المريح.
|
|