أبدع الرئيس الأمريكي أيما إبداع وهو يخاطب العالم الإسلامي. وكأني به وقد دخل لباب كثيرين عندنا بالطريقة ذاتها التي دخل بها لباب قومه يوم أعلوا شأنه ومنحوه (عرش) أمريكا. فمنذ سبتمبر 2001م، وبعد (سبع سنين) شداد على الناس في كل مكان، جاء أوباما، خطيبا مفوها، بسبعة مقومات اجتمعت له:
الفصاحة، والحصافة، والبلاغة، والبديهة، والثراء المعرفي، والاستدلال القوي، والثقة في النفس. وكلها أمور ما اجتمعت في رجل إلا امتلك شغاف القلوب، ونال الاستحسان والتفضيل والقبول عند الناس. كما جاء بسبع قضايا (عجاف) كانت مرتكزات خطابه للمسلمين. وأحسبه قال عنها كأحسن ما يمكن أن يقول عنها سياديّ أمريكي، في العصر الحديث. وحيث إنني لن أتناول، في هذه المداخلة، ما قاله الرجل، مما أصبح معلوما لدى عامة الناس فضلا عن خاصتهم، فإنني سأبدأ بالتساؤل عن أبعاد الرقم (سبعة) في خطاب الرئيس. فقد نتفق أن مقوّمات الرجل كانت سبعة كما ورد أعلاه، كما أننا متفقون، بالضرورة، أن الرئيس الأمريكي أجمل أفكاره التاريخية في سبع قضايا جوهرية. فهل كان يعني، فعلا، الارتكاز إلى منهج (السباعيات) عند المسلمين؟ باعتبارها امتداد شرعي حنفيّ (لسباعيات) الكون والأقدار الملحوظة؟ فلا أظن أن رجلا، بهذه المهارة، وخطابا، بهذه الحرفيّة، إلا وقد أخذ في حسبانه، ضمن ما أخذ، ثقل وأهمية الرقم (سبعة) عند المسلمين بشكل خاص. وإن لم يكن أوباما قد فعلها، فهي دعوة له اليوم أن يزداد حبورا بخطابه التاريخي، حيث إن القدر كان معه.. فحمله على (تسبيع) خطابه، لتزداد حظوظه عند من تخلوا عن حظوظ النفس، وفتحوا له آذانهم، وعقولهم، من الساسة والنخب في أرجاء العالم الإسلامي. وأقول لمن لا يعرف دلائل وأسرار الرقم (سبعة) إن (للتسبيع) خاصية كونية فريدة، وأسرارا لا يعلم كنهها إلا الله تعالى. فمثلا: عدد البحار سبعة، وعدد المعادن الرئيسية في الأرض سبعة، وهناك سبعة مستويات مدارية للإلكترون، وثمة سبعة مستويات حول النواة، وسبعة ألوان للضوء المرئي وسبعة إشعاعات للضوء غير المرئي، وسبعة أطوال لموجات تلك الإشعاعات، كما أن ألوان الطيف الرئيسية سبعة، و(الإنسان) يتكون من سبعة عناصر.
والأسرار في المسيحية سبعة، وفي اليهودية هناك الطبقة السابعة من شجرة الحياة. أما في الدين الإسلامي، فإن للرقم (سبعة) حظوظا خاصة جدا ومتعددة. فعدد آيات فاتحة الكتاب المبين سبع آيات، وعدد كلمات شهادة التوحيد سبع كلمات، والسموات سبع، والأرضين سبع، وأبواب النار سبعة، ويؤمر الفتى بالصلاة عند السابعة، والطواف حول الكعبة سبعة أشواط، والسعي بين الصفا والمروة سبعة أشواط، وعدد مرات رمي الجمرات سبع مرات، وعدد الحصوات سبعا في كل مرة، ومضاعفة الإنفاق في سبيل الله قدر سبع سنابل، وتكبيرة العيدين سبع تكبيرات في أول ركعة، والموبقات سبع، وفي الحديث الشريف: (سبعة يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله).. والمهم الآن، ما سر الرقم (سبعة) في خطاب الرئيس الأمريكي؟ ربما الأنسب، هنا، إثارة هذا التساؤل للتأمل وكفى.
أما الأهم فهو مراجعة الخطاب ليس لمزيد معرفة بما قاله الرجل، بين ثنايا تلك السبع العجاف من قضايا علاقتنا بالغرب، ولكن للتأمل في عدد آخر من القضايا لم يتناولها أوباما في خطابه.. وأحسب أن عدم الإتيان بها قد اتسم بالحكمة ذاتها التي أتت بالسبع سيئة الذكر. لقد جاء أوباما للمنطقة مسالما يرفع راية السلام، بعد أن كان أسلافه يأتون محاربين. ولأن (حربه) على (الحرب على الإرهاب) كانت السر الأكبر في بلوغه مقعده في البيت الأبيض، فقد بدا ذلك واضحا في خطابه. فبحصافة فريدة وغير متوقعة، لم يستخدم أبدا كلمة (الإرهاب) بأي تصريف لغوي لها. واكتفى بمصطلحات (العنف) (والتطرف). وإن كان ألصقهما ببعض المحسوبين على المسلمين ممن يمكن الاتفاق على عنفهم وتطرفهم، وآخرين لا يسوغ في حقهم ذلك أبدا، وهم مقاومو الاحتلال في فلسطين.. وفي الوقت نفسه، لم يقل أوباما أن (من) اليهود أهل (عنف) و(تطرف) بل عوضا عن ذلك واساهم في المحرقة الكبرى. لكنني أتفهّم ذلك جيدا من رجل غربي أمريكي سيادي (بيت أبيضي)، ويكفيني منه إلماحته لأحداث غزة، هكذا قالها (أحداث عزة) وعبر، باقتضاب، عن أسفه لما حدث هناك. وأعجب أن من بيننا من كان يأمل بأكثر من الأسف، ويتطلع لأن يقول أوباما شيئا مثل (الإرهاب الإسرائيلي في غزة) أو حتى (العنف الإسرائيلي) فمهما تفاءلنا، ومهما دنا الآخرون منّا، فلن تبلغ بهم (مغازلتنا) أن ينصفونا على طريقتنا.. والقول الفصل هو ما يقوله أحبتنا في القاهرة (إحنا كنّا فين، وبَئِينا فين!!) للتعبير عن الرضا بالمتحقق من التقدّم. فهانحن تقدّمنا كثيرا.. في موقفنا الجمعي، في خضم الصراع معنا وعلى أرضنا. وهاهم يأتون إلينا وكأنهم يقدمون لنا العذر فيما فعلوه بنا، كما أن استقراء الخطاب.. يؤكد أنه على الرغم من المكانة الكبرى التي احتلتها، في مرحلة (إن لم تكن معي فأنت ضدي)، البائدة، موضوعات مثل المستقبل السوري، والنظام الحاكم في السودان، والتدهور العام في لبنان، ومهلكة الصومال، إلا أن تلك القضايا والمناطق تأخرت في أولويات أوباما في إدارة الصراع الأمريكي الإٍسلامي المعاصر. ويقود ذلك للفهم بأن السنوات القادمة قد تشهد نجاحات مهمة في نزع فتيل العنف والعنف المضاد، ليقبل العالم على مرحلة جديدة من الهدنة والترقب، لكنه لن يصل مرحلة (الشراكة) التي تمناها الرجل في خطابه، فقط لأن الثقة المتبادلة لم ولن تتحقق بهذه السهولة. هذا العام الأول من ولاية باراك أوباما، عامٌ كما يبدو (فيه يغاث الناس، وفيه يعصرون)، بعد سبع سنين عجاف أكلن كل ما قدّم الناس فيهن، وبالأخص كل ما ادخره المسلمون من علامات إثبات حسن النية مع الغرب. وكل ما جمعوه من حطام الدنيا.. لقيام بنية تحتية أو فوقية في عوالم تئن تحت معدلات قياسية للجوع والفقر والأمية والأوبئة.
وخلاصة القول: أمّا وقد فتح القوم لنا منطقة عبور، فلنعبر، على بركة الله. ليس فقط المعتدلون منا، فهم أهل مبادرات سلام منذ الأزل، ولكن أيضا حتى المتشددون والمتطرفون الذين يتذرعون بالنصوص كما يفهمونها، فعليهم أن يقرءوا اليوم قول الحق تبارك وتعالى في سورة الأنفال {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }. كما أن عليهم أن يعوا جيدا أن العالم اختار السلام بعد أن أجاد تحديد خصومه الحقيقيين، واتفق، كما يبدو، على مواجهتهم بشكل أكثر حرفية ومهنية. تحية لأوباما يوم جاءنا في الرياض، وتحية له يوم خاطبنا من القاهرة، وتحية كبرى له يوم يثبت لنا، بالأمر الواقع، أنه يُصلح الأرض التي سعى غيره.. من بني جنسه.. لإفسادها.
alhumoodmail@yahoo.com