Al Jazirah NewsPaper Monday  15/06/2009 G Issue 13409
الأثنين 22 جمادىالآخرة 1430   العدد  13409
بعد الخطاب المنتظر
د. عبد الله الصالح العثيمين

 

كنت أنوي نشر مقالة عنوانها (بين يدي الخطاب المنتظر)؛ استلهاماً من عنوان مقالة سبق أن نشرتها قبيل انعقاد أحد مؤتمرات القمة العربية. والمراد بالخطاب المنتظر هو خطاب الرئيس الأمريكي، باراك أوباما، الموجَّه إلى المسلمين.

كان من اليسير التحدث عما ستسفر عنه كثير من تلك المؤتمرات العربية؛ وبخاصة في العقود الأربعة الأخيرة. ذلك أنّ مواقف الزعامات المؤتمرة معروفة سلفاً، والظروف المحيطة بها، التي تتصرّف وفقها، واضحة بدرجة كبيرة. أما خطاب الرئيس الأمريكي المنتظر انتظار بعض المسلمين بلهفة وشوق مجيء المهدي المنتظر، الذي سيملأ الأرض عدلاً بعد أن ملئت ظلماً وجوراً، فحدث مهم ينطلق من الكنانة .. أم الدنيا .. التي اختيرت بعناية ذكية.

أجل إنّ خطاب الرئيس الأمريكي من القاهرة حدث يدخل الحديث عنه قبل حدوثه ضمن التكهنات التي قد تكون وجيهة وقد لا تكون وإنْ كانت بعض الإشارات والمعطيات فيها من الأمور والدلالات ما فيها. من ذلك أنّ السياسة في دولة مؤسسات مثل أمريكا لا يسيرها رئيس الإدارة الحاكمة وحده، بل للكونجرس بمجلسيه دور مهم جداً في تسيير تلك السياسة. وكثيراً ما فاتح زعماء صهاينة قادة أمريكا أنّ الكونجرس في أيديهم. ومن ذلك أنّ الرئيس أوباما نفسه قد اتخذ من صهيوني أبوه ما زال في الكيان الصهيوني كبيراً لموظفي البيت الأبيض، وأنه لم يستطع أن يعيِّن رجلاً لم يكن اللوبي الصهيوني موافقاً على تعيينه في أحد أجهزة الأمن المهمة. لذلك قلت في مقالة سابقة: إنّ من غير الصواب أن نأمل من أوباما - مع عدم التشكيك في حسن نواياه - ما يعتقد وفقاً لمجريات الأمور أنه غير قادر على تحقيقه. ولاقتناعي بذلك فإني لم أندم على عدم نشر مقالتي عن خطابه المنتظر قبل أن يلقيه. بل كان من حسن الحظ أنني لم أنشرها، إذ اتضحت لي الصورة أكثر فأكثر بعد أن استمعت إلى ذلك الخطاب، الذي - كما قالت وسائل الإعلام الأمريكية - قد اشترك في إعداده أكثر من أربعين خبيراً من مختلفي الاختصاصات والانتماءات، فجاء من كلماته ما هو العسل المذاب. وهذه العناية في إعداده توضح عظمة من يحسبون للأمور حسابها، كما توضح مدى الفارق بين أمة متقدمة وأمة متأخرة.

على أني كتبت بدلاً من المقالة، التي لم أنشرها، مقالة أخرى عنوانها (الأمل في ظل الموقف الصعب) ذكرت فيها أنّ الأمم تمر بمراحل ضعف وقوة، وأنّ من أسباب الضعف ما هو مادي يمكن أن يتغلّب عليه بالإيمان الراسخ والإرادة القوية والجهد المخلص. ومنها ما هو معنوي يصعب التغلّب عليه لفقده تلك الأمور الثلاثة المهمة. ومما قلته: إنّ أمتنا حققت كثيراً من مظاهر الحضارة بينها ما أنجز في ميدان التعليم ومختلف الخدمات. وكل هذا مما يحمد الله ويشكر على التوفيق إليه، ومما يُعد رصيداً محموداً لمن أسهموا في إنجازه. على أنّ من مظاهر ما تم أيضاً، مشاهد بنايات مشيّدة، وأسلحة مكدّسة، ووسائل رفاه لم تسهم أمتنا إلاّ في التهافت على شرائها من أولئك الذين لهم فضل صناعتها في البلدان المتقدمة. وفي مقابل ذلك لم تستطع أمتنا - في أكثر أقطارها - خلق مواطنة صحيحة داخل القطر الواحد منها؛ ناهيك عن تنمية شعور عام لكل هذه الأقطار، ولم تزرع في نفس الفرد ما يطمئنه على حاضره فما بالك بمستقبله ومستقبل أولاده؟

ثم كتبت مقالة أخرى في الأسبوع الماضي أشرت فيها إلى أنّ كثيراً من أبناء أمتنا العربية، التي كان أسلافها قد اتخذوا من قول الرسول، صلى الله عليه وسلم (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف) أو ما هو بهذا المعنى، يحلِّقون - بعد خطاب أوباما - في جو من النشوة بما سمعوه من كلام مدغدغ للعواطف عن الإسلام؛ ديناً وحضارة، وعن معاناة من عانوا - وما زالوا يعانون - منها أنواعاً من البأساء.

ومما قلته: إنّ أمتنا برهنت في العقود الأخيرة بالذات ربما أكثر مما سبقها أنها أمة شاعرة تؤثر فيها العاطفة أكثر مما يؤثر فيها العقل، وتطرب للكلمة المموسفة أكثر من تأملها في مجريات الواقع ودلالاته الحقيقية.

وهذا الموقف المبرهن عليه ينسجم انسجاماً تاماً مع الحكمة التي تتبنّاها أمة شاعرة كأمتنا الحاضرة، وهي أنّ (الكلام الليِّن يغلب الحق البيِّن).

أما بعد:

فقبل التعليق بنوع من التفصيل حول القضايا المهمة في خطاب الرئيس أوباما لا بد من الاعتراف بأنه خطاب انتشى بما ورد فيه من انتشى حتى من بين أولئك الذين يستبعد المرء ميلهم إلى النشوة الوجدانية؛ مثل أكابر علماء الشريعة، المحتلين لمناصب رفيعة. ولم يبق إلاّ أن يقف أولئك العلماء، ويرفعوا أصواتهم مع ذلك الذي رفع صوته والرئيس يخطب قائلاً: (أحبك يا أوباما). والأهم من هذا الاعتراف هو الإشارة إلى أمور منها:

أولاً: أنّ وطننا العزيز .. المملكة العربية السعودية ..؛ قيادة وشعباً، قد أثبت عظمة موقفه من قضايا أمتنا - وفي طليعتها قضية فلسطين - إيماناً راسخاً منه بعدالة هذه القضايا، وقياماً بما يحتمه الواجب تجاهها.

ثانياً: أنّ أيَّ أمة تلقي مسؤولية حل قضاياها على عاتق غيرها أمة غير جديرة بالاحترام، ولن ترجع إلاّ بخفي حنين في مسعاها. ما لم تصلح الأمة نفسها معتمدة على الله ثم على نفسها فإنّ الفشل سيكون دائماً حليفها. ومجريات الأحداث في منطقتنا العربية لا توحي أبداً بأنّ أمتنا مصمّمة على إصلاح نفسها. بل إنني لا أتردد في ذكر ما هو أضعف الإيمان بالنسبة لها. لقد تحدّثت مع كثيرين من الغربيين بمن فيهم من هم من أمريكا، وسألتهم لِمَ يقفون مع أعداء أمتنا من الصهاينة ضدنا مع أنهم يعلمون أننا على حق؟ وكانت إجابات أكثرهم (فلوموا أنفسكم). ولِمَ نقف معكم ومصالحنا بالذات لم ينلها أي ضرر مع وقوفنا المنحاز ضدكم، وبخاصة أنّ هذا الوقوف مما يرضي الصهاينة، الذين يعلم الجميع ما لهم من نفوذ في المجتمعات الغربية؟

والأمر الثالث: أنّ أمريكا - والحديث عن خطاب رئيسها الذكي - دولة مؤسسات، كما سبق أن ذكر. ومن أدلة ذلك أنّ محاولة الرئيس بوش الأب عدم الموافقة على مساعدة الكيان الصهيوني بالأموال الطائلة التي طلبها ما لم يتوقف بناء المستوطنات في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967م باءت بالفشل. ذلك أنّ الكونجرس المسيطر عليه من قِبَل أعوان ذلك الكيان ضغط على الرئيس حتى نال الصهاينة ما أرادوا.

على أنّ أمريكا - لو أرادت إدارة ومؤسسة برلمانية - تستطيع أن تقف أمام الغطرسة الصهيونية كما حدث في عهد الرئيس أيزنهاور عام 1956م حين كان موقفه لظروف معروفة من أهم عوامل إجبار الصهاينة على سحب قواتهم من الأراضي التي احتلّوها ذلك العام. لكن لا بد من مراعاة أمرين مهمين في هذا المجال. أولهما أنّ التصهين ازداد رسوخاً في المجتمع الأمريكي، وثانيهما أنّ الوضع العربي ازداد ضعفاً نتيجة التفكك المؤلم والانقسامات المرعبة. ونتيجة لهذا الضعف انقلبت المفاهيم بحيث أصبح من يقدم على الاعتراف بشرعية الوجود الصهيوني على أرض فلسطين هو العاقل لا غيره، وهو الشجاع أمام المتشنجين الذين لا يفهمون الحياة. ومما لا بد من ذكره، هنا، هو الاختلاف بين الرئيس الأمريكي الحالي بكل ما يملكه من صفات الذكاء والألمعية، والرئيس السابق له بكل ما يتصف به من صفات اعترف بسوئها حتى أمه نفسها عند انتخابه أول مرة.

بل إنّ هناك شبه إجماع عند أكثر الأمم بأنه وإدارته كانوا الأسوأ في تاريخ الإدارات الأمريكية؛ عجرفة قوة وارتكاب جرائم بشعة، وتوريط لأمريكا نفسها - ومن ورائها العالم - بكوارث مدمِّرة، ويكفي دليلاً على سوئها أنه كان من أركانها أمثال تشيني ورامسفيلد، الذين استهجن تصرُّفاتهم كل عقلاء العالم.

وإلى اللقاء في الحلقة القادمة إن شاء الله.




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد