الطراز المعماري في مدننا يشبه أسواقنا؛ فهو بلا هوية أو ملامح خاصة تمايزه عن بقية المدن، بل هو خاضع لذوق عشوائي استهلاكي يتغلب فيه النفعي على الجمالي.
فالطبيعة المطردة والسريعة لنشوء المدن لدينا واتساعها بشكل كبير غيبت عنا الوعي بأهمية أن يكون هناك طراز أو هوية، أو ما يسميه المعماريون (بكود البناء) الخاص بنا؛ فلم يترافق وجود الطفرة الاقتصادية الكبرى في مدننا، مع فلسفة معمارية جمالية تراعي الأبعاد الاجتماعية والتأثيرات المناخية، وملاءمتها لأنظمة ومقاييس موحدة للجودة النوعية.
فعلى مستوى المساكن مثلاً كانت عملية الانتقال القافزة من البيت الطيني البسيط المستجيب للظروف المناخية في المجتمعات شبه الزراعية والصحراوية، إلى البيت الأسمنتي متسع الردهات خاطفة ينقطع فيها التواتر، وكانت اللمسة الجمالية الوحيدة التي وضعناها على المنازل هي أسقف القرميد، في ظل مناخ لا يشهد الثلج وتندر أمطاره.
ولم نستعن أو نستجر بتراثنا الشرقي في تصميم المنازل، حيث يتميز البيت الشرقي بدهليز ومن ثم فناء واسع تلتف حوله الغرف, والأقواس، مع العناية بالنوافير والنباتات التي تسهم في ترطيب وتلطيف الأجواء الحارة.
ما حدث هو أن أحياءنا السكنية في غالبيتها رصفت بمكعبات أسمنتية متجاورة، نحشدها بالأثاث دون أن نستجيب لبعض الأساليب الجمالية التي كان من الممكن أن تصنع نمطاً خاصاً بالمدينة.
غالبية مدن العالم لها طابع معين في البناء تحاول أن تقاوم به ومن خلاله طغيان الأسمنت وصلافته، وشهقات ناطحات السحاب من حولها؛ وبالتالي تصنع لها واجهة حضارية مستمدة من إرثها من الممكن أن تعكس ارتفاع ذوق سكانهم واحتفاءهم بالفنون البصرية.
حتى مساجدنا التي كانت عبر التاريخ المعمل الأول الذي انبثقت عنه معظم جماليات الفنون الإسلامية، لم تحظَ بملامح جمالية متميزة مشتركة من الممكن أن تعكس طبيعة المرحلة وتقدمنا كشعوب تقطن أرض الوحي ومطالع النبوة.
ولا أغفل هنا وجود بعض الواحات العمرانية المتميزة وسط صحراء الأسمنت في الرياض مثل الحي الدبلوماسي، أو مركز الملك عبدالعزيز الحضاري، والمدينة القديمة حول المسجد الجامع بالرياض، لكنها - كما قلت - واحات منقطعة عن محيطها.
لقد قرأت في الأيام الماضية بجريدة الشرق الأوسط أن الجمعية السعودية لعلوم العمران ستخصص كود بناء خاصاً بالمساجد وكوداً للمدارس وآخر للمستشفيات، كخطوة مبدئية لتخصيص كود بناء للعديد من المنشآت على حسب علاقتها بالمجتمع والأجواء المناخية المحلية.
وقد تفاءلت بالخبر؛ لأنني أرجو أن ينظم هذا الكود الذي ينتظر رفعه إلى عدد من الوزارات المعنية، العشوائية العمرانية في مدننا ومساكننا ومرافقنا الحيوية، ليس على مستوى الطراز العمراني وحسب، وإنما ما يرافقه من شروط ومتطلبات صحية وبيئية وتجهيزات تخضع لكود محلي موحد؛ فعبر كود البناء المحلي لن يكون الوقت متأخراً لتستعيد مدننا ملامحها وطرازها العمراني الذي يكسبها خصائصها المتميزة بين مدن العالم.