عندما هاتفني أخي الصحفي الشاب الأستاذ (أحمد عدنان)، الذي خلف الصحفي الشاب الآخر الأستاذ (علي العليان) في تقديم برنامج (عيشوا معنا) اليومي، الذي تبثه إحدى القنوات الفضائية اللبنانية من (بيروت).. وقد كانا يعملان فيها معاً:....
.... الأول.. في (إعداده)، والثاني.. في (تقديمه)، مشكلين (ثنائياً) وطنياً سعودياً جميلاً.. إلى أن أغرت إحدى الفضائيات الأخرى الأستاذ العليان بالانتقال إليها، لينفرد الأستاذ عدنان.. بإعداده وتقديمه، ويسألني في أولى حلقاته - عن (صورة) الليبراليين في المملكة.. أو عن حالهم.. وهو على (الهواء)؟
فقلت - حسبما أذكر - أنهم غائبون عن مشهد الحراك السياسي.. الوجل والمرتبك أصلاً(!!)، ثم أضفت أن الحديث عن (الليبرالية) والليبراليين.. حديثٌ طموح، وربما مبالغ فيه.. وهو أقرب إلى حديث الأحلام والتمنيات منه إلى (الواقع)، فالذين اسماهم (البرنامج) ب(الليبراليين).. هم في حقيقة الأمر مجموعة من المواطنين، يملكون رؤية خيِّرة بناءة في (الشأن العام)، عبروا ويعبرون عنها من خلال أحاديثهم، ومصادفات لقاءاتهم الاجتماعية، وربما من خلال بعض المقالات التي كتبها القادرون منهم.. حيث تم نشرها (إليكترونياً) على مواقع الإنترنت بأكثر من نشرها (صحفياً)، إلى أن جاءت أحداث التسعينيات في (الحادي عشر) من سبتمبر.. لتقربهم أكثر فأكثر من (الشأن العام)، على الرغم من اختلاف مكوناتهم وأطيافهم السياسية من (القومية) إلى (الاستنارة الإسلامية).. وما بينهما وهو كثير. لكن يبدو أن هذا التنوع الفكري.. هو الذي دعا المتساهلين والمتعجلين معاً، أو المضخمين ل(المسميات) ومن بينهم - ربما - مقدم البرنامج نفسه.. لإطلاق مسمى (الليبراليين) ب(ثقة) و(طمأنينة) على هذه المجموعة من المواطنين، على أنهم سواء صدقت التسمية أو لم تصدق، لم يشكلوا في النهاية: وزناً.. أو جناحاً مقابلاً للتيار الإسلامي المتشدد اجتماعياً، والحاضر على الدوام.. في هين الأمور وعظائمها.
***
لقد نسيت في إجابتي (أو مداخلتي) تلك أن أتذكر مقال الدكتور عبدالعزيز الدخيل عن (الصفقة الطاشية.. على حساب الليبراليين)، عندما قال إن تلك الحلقة التي تم بثها في رمضان ما قبل الماضي.. إنما كان هدفها (التوازن) مع نقد البرنامج - الكاريكاتوري - للمتشددين الإسلاميين.. الذي روت حلقة من حلقاته كيف أن (مراهقاً) حُرِمَ من لعب (كرة القدم) في الحديقة المجاورة لمنزله.. كما حُرم من لعبها في (المول) التجاري.. حتى أُصيب بالاكتئاب، كما روت حلقة من حلقات البرنامج الأخرى.. كيف ذهب أحد هؤلاء المتشددين ترافقه عائلته.. إلى شاطئ البحر، لترى نساء العائلة البحر، ولكنه خاف عليهن من (عيون) الآخرين المتلصصة.. فظل يتنقل ب(العائلة) من موقع إلى آخر، بحثاً عن موقع بعيد عن تلك العيون.. فلما لم يجد أحاط العربة ب(البطاطين)، ليعودوا بعد غروب الشمس.. دون أن تقع نظر أي من نساء العائلة على البحر الذي ذهب بهن إلى رؤيته، وليس الهجوم الكاريكاتوري على (الليبراليين).. أو السخرية منهم، فقد نفى - وهو على حق - وجودهم في خريطة الحياة السياسية في المملكة.. أو فيما يمكن أن نسميه بمشهد الحراك السياسي فيها، إذ إنه وكما قال لا يوجد - في مجتمعنا - سوى طرفين أو مجموعتين: (مجموعة الفكر الديني التقليدي اجتماعياً) و(مجموعة أخرى.. تضم أطيافاً اجتماعية وسياسية واقتصادية مختلفة: رجل الدين، ورجل الأعمال والأكاديمي، والشاعر، والمغني. منهم الأمي أو من لا يملك إلا اليسير من العلم، ومنهم من يحمل أكبر الشهادات.. إلخ)، وهو ما أيدته فيه عندما كتبت في حينها معلقاً على مقاله الدقيق عن الليبرالية والليبراليين. لقد كنت أحوج ما أكون - لحظتها - إلى نفيه لوجود (ليبرالية) أو ليبراليين في مجتمعنا، على أن ضيف البرنامج.. أراحني عندما أمَّن على ما ذهبت إليه في تلك المداخلة، وما ذهب إليه - بالتالي - من قِبل الدكتور الدخيل.
لكن المصادفات العفوية أو المحسوبة.. طالعتنا يوم السبت الماضي بمقال في صحيفة (الوطن) للناقد المثقف والكاتب المخضرم الأستاذ شاكر النابلسي بعنوان ضخم: (مقدمة في مستقبل الليبرالية السعودية).. قدم فيه - وهو ما يهمني - الأسباب الموضوعية ل(غياب) الليبرالية عن مجتمعنا.. عندما قال إن هناك سببين: الأول (جغرافي).. يتمثل في (موقع المملكة شبه الصحراوي، وابتعادها إلى حد ما عن تيارات الفكر العربي المختلفة).. وهو ما يعيد إلى الأذهان فكرة (المركز) و(الأطراف) التي لا تزال تغضب بعضنا دون وجه حق، والثاني.. عقائدي فكري: يتمثل في (موقعها الديني في العالم الإسلامي الذي يفرض على السعودية ما لا يفرضه على أي بلد آخر).. وهو ما لم يستقر في وعيي ويقيني، بل ورأيته (تبريرياً) لا يتفق وموضوعية الأستاذ النابلسي.. كما لا ينسجم مع الإسلام في جوهره الصحيح، القائم على (التوحيد) (بأركانه الخمسة) و(الشورى) و(الحرية) و(القضاء) بين الناس ب(العدل) وبشرع الله.. الذي لا يأتيه الباطل.
***
وحتى لا يتحول الحديث عن (الليبرالية) والليبراليين إلى (لغز) أو (متاهة) عند الأغلبية.. أمام هذه الآراء المتقارب بعضها، والمتباين بعضها الآخر، فمن الأفضل وكما قال أحدهم أن يجري الحديث - حتى ولو كان مكرراً أو معاداً - عن (الليبرالية) نفسها أولاً.. قبل أن تتصادم الأصوات حول وجودها أو عدمه في مجتمعنا، وبالتالي عن وجود (ليبراليين) في مجتمعنا من عدمه.. على الأقل حفاظاً على حق بعضنا في ألا نكون ك(الأطرش.. في الزفة)..!!
بعيداً عن المخاوف.. فإن التعريف السائد ل(الليبرالية) هي أنها: (مذهب سياسي ينادي بالحرية المطلقة في الميدانين السياسي والاقتصادي).. وهي في أبهى صورها وعند سدنتها وأنصارها: (تيار إيديولوجي يطالب بالتقدم عن طريق الحرية)، وهي في تطبيقاتها السياسية تقوم على القبول بأفكار الغير وأفعاله حتى ولو كانت متعارضة مع أفكار المذهب وأفعاله.. شرط المعاملة بالمثل، كما تقوم (على التعددية الإيديولوجية، والتنظيمية الحزبية، والنقابية..
أما في جانبها الاقتصادي.. فهي (تعتمد على الحرية الاقتصادية والمبادرة الفردية، والإنسان الاقتصادي الذي ينمو بشكل طبيعي.. نحو تلبية ما يمكن من الاحتياجات بأقل ما يمكن من الأتعاب).. مدعية: (أن مصالح الفرد تتطابق مع مصالح المجتمع)..!!
ونظراً لأن دعاتها وسدنتها في القرن الثامن عشر إلى أوائل القرن التاسع عشر.. هم دعاة الرأسمالية وأربابها من أمثال (آدم سميث) و(توماس مالتوس) و(ديفيد ريكاردو)، فقد كانت موضع نقد لا يرحم من (اليسار) الحالم ب(العدالة الاجتماعية).. فهل في مجتمعنا (ليبرالية) بهذا المعنى..؟
وهل لدينا (ليبراليون) بهذا المفهوم..؟
أخشى، لو أننا سألنا أحد عابري الطريق في أي شارع من شوارع جدة أو الرياض أو حتى الدمام.. عما تعنيه كلمة (ليبرالية)..؟ لأجاب.. كما أجاب ذلك المتسابق - في أحد البرامج التلفزيونية - عندما سئل عما تعنيه كلمة (يوثانت) أشهر أمين عام للأمم المتحدة في الستينيات من القرن الماضي..؟
فأجاب بعد هنيهة من التفكير: أظنها (وجبة) من وجبات جنوب شرق آسيا..!!
***
على أي حال.. تبقى (الليبرالية) بإشراقاتها الكبيرة وعيوبها العميقة.. حلماً، وطريقاً طويلاً.. لا أحسب أن أحداً يملك الجرأة معه، على القول.. انها موجودة بيننا.. أو اننا على طريقها، وأقصى ما يمكن قوله.. هو أنه ربما ولدت لدينا طلائع لها في القواسم الإصلاحية المشتركة معها.
وجزى الله أخي الأستاذ أحمد عدنان.. فقد أعادني بسؤاله.. إلى خطوط التماس ثانية..!!