Al Jazirah NewsPaper Monday  20/04/2009 G Issue 13353
الأثنين 24 ربيع الثاني 1430   العدد  13353
الإنترنت هو العالم..
د. عبدالرحمن الحبيب

 

نتسوق، نطلب الأكل والدواء، نعمل، نلعب، نحب، نبحث عن المعلومات، نعلن عن أفكارنا، نتصل ببعضنا وبالعالم عبر الإنترنت، دون أن نغادر المنزل. أصبحنا نعيش حياة أكثر راحةً وتكاملاً ونحن منطوون على أنفسنا.. فالإنترنت قرب بين الناس في النص الخيالي وأبعدهم عن بعضهم في الواقع الاجتماعي.

فلنواصل الرحلة التي بدأنها في المقالة السابقة عن الإنترنت مع كتاب سيجل (ضد الآلة). عندما تكون في المقهى مع (اللابتوب) أنت مع الناس ولست مع الناس.. أنت معهم جسدياً ولست معهم اجتماعياً ولا نفسياً. فالإنترنت يطوق عقلك وقلبك بالإيميل وبالإعلانات التجارية وبمليون إغراء يفتنك لبرهة، لتغرق في رغباتك الذاتية.. فشاشة الإنترنت هي كل العالم، بينما العالم الواقعي المحيط بك يكاد يكون غير موجود!

أمام تلك الشاشة يوماً بعد يوم ينمو الوهم تدريجياً أن العالم يُختصر ويُعقلن ويتنظم في ملايين الوحدات التي تسمى مواقع إنترنت، ولكن العالم الخارجي الواقعي يظل غير ذلك تماما. أصبحنا مع إدمان تلك الشاشة قليلي الصبر تجاه الواقع الذي لا يُرضي غرائزنا ولا تصورنا للعالم.. لا نقبل بسهولة واقعية عجزنا الذاتي أو تواضع مواهبنا أو ضعف شخصيتنا..، حتى أصبح من الصعب أن نتحمَّل كوننا بشرا.

ليس ذلك بسبب الإنترنت، بل بسبب طريقة التعامل معه. فالتفاعل الاجتماعي والنفسي قبل ظهور الإنترنت كان ولا يزال يتميز إما بتمجيد التكنولوجيا عبر احتفالية غير نقدية أو الحنين للماضي قبل الإنترنت.. ولأن كليهما كاريكاتيري فلم تؤخذ المسألة بجدية.

ها هي حياتنا تنقلب في كل مكان: نجار من أمريكا يتعرف على امرأة في البرازيل بالإنترنت، يزورها مرتين، وفي المرة الثالثة يقتله عشيقها.. عملية تجميل بالوخز تغرر بالمئات (في الشاتروم).. هاكرز الكمبيوتر يستخدمون الإنترنت لإسقاط حكومة إسيتونيا.. شبكة عنكبوتية ضخمة تفضح هويات الشهود المحميين من الفديرالية في العاصمة الأمريكية.. وفي مواقع الشبكات الاجتماعية أو في (يوتيوب) تظهر لك أسوأ المناظر البشعة غير الإنسانية يتم تصورها بطرق التسلية والترفيه.. وتسوق أدق خصوصيات الناس المحرجة كبضاعة للمتعة..

كيفن كيلي أحد أهم المؤلفين الممجدين للإنترنت والمرحبين بانقراض الإعلام التقليدي، يذكر أنه لم يعد هناك تمييز واضح بين الواقع والصورة، بين الحقيقي والتمثيلي.. وأنه خلال20 سنة سيحدث تهجين بين الخيالي والوثائقي.. سنرى مزيداً من عروض واقعية تصبح سيناريوهات، وسيناريوهات تخرج عن السيطرة، ووثائق تستخدم ممثلين، وممثلين مُختَرَعين آلياً، وأخبار ممسرحة، وقصصاً تصبح أخباراً.. وتزاوجاً بين الخيال والواقع. قد يكون كيلي على حق، لكنه لا يرى مشكلة في تزييف الواقع. وإذا قررت التكنولوجيا أن الحدود بين الحقيقي والزائف سوف تسقط، فإن ذلك بالنسبة لكيلي حتمية تاريخية.

المراقبون مهتمون بمقدار الوقت الذي يضيعه الإنترنت في التسلية، ولم يناقشوا إلا نادراً دور الإنترنت في اختفاء حدود الحقيقة. لقد اكتشف الناس خدع الحكومة التي أدت إلى حرب العراق، وتم الاعتراض عليها.. تزييف الواقع من السياسيين يتم اكتشافه عاجلاً أو آجلاً، إنما الأشد وطاة هو التزييف الإنترنتي الذي يؤثر في عقولنا على المدى البعيد، ويتم استخدامه تجارياً للتسلية والترفيه.. الناس أمثال كيلي و مجموعة بيو (Pew)، وهي مشروع الإنترنت والحياة الأمريكة، يقولون بدلاً من النحيب ضد التلاعب بالحقيقة استمتعوا بالترفيه التكنولوجي.. إنهم على عجلة من أمرهم متلهفون لكسب الأرباح وبيع برامجهم..

أما بيل جيتس الذي مجَّد كثيرا حسنات الإنترنت في اتاحتها فرصة متساوية للجميع للوصول للمعلومات، وفي تشجيعها للتجارة، وكسرها للحواجز بين الشعوب والحضارات، ومساعدتها الدول النامية في التطور الصناعي ومنحها فرصاً متساوية للمساهمة في الاقتصاد العالمي..إلخ، فإنه لم يغفل عن سلبيات الإنترنت على أمن المعلومات الشخصية وفي التأثير السلبي على الأطفال وفي الخطر على تعايش الثقافات المحلية مع زيادة العولمة..الخ

لحماية المعلومات، فإن تطوير برامج الحاسب هو الحل. لحمياة التأثير السلبي على الأطفال فإن أنظمة الكمبيوتر المتقدمة هي الحل. لحماية الثقافات المحلية، فإن إدخالها في تقنيات الإنترنت العولمي هو الحل.. هذه حلول جيتس. لقد شخَّص جيتس المشكلة من ناحية ثقافية وليس من ناحية اجتماعية أو نفسية، وبالتالي اعتبر الحل موجوداً بالإنترنت نفسه. هو لم يقلق على الاضطراب العميق والحاجات والرغبات الإنسانية اللاعقلانية الذي يحدثها الإنترنت، فبالنسبة له هذه الاضطرابات اللاعقلانية لا توجد خارج عقلانية الإنترنت. وبما أن الاقتصاد هو أبسط وسائل حياة الإنسان العقلانية، فإن جيتس يعتقد أن الإنسان يمكنه الحفاظ على إنسانيته بقوة، عبر المعنى الاقتصادي.

أن أهم المناصرين بحماسة للإنترنت ينتهي بهم الأمر إلى الحديث بلغة الاقتصاد والأرباح التجارية. فحتى المؤسسات الدينية التي يُفترض أنها الأشد حساسية لتأثير الإنترنت على العادات والتقاليد، قبلته بحسبة التكلفة والربح لعدد الأنصار؛ ولم تعد تختلف عن أكثر المواقع الإنترنتية إباحية جنسية. فكل شيء مألوف تقليدياً أو محرَّم يظهر في نفس الشاشة. فخلطة التقاليد المألوفة مع المحرمات هي مقاولات جديدة تبيع فكرة أن السوق التجارية تلائم وبسعادة كل القيم الإنسانية، صار المتحمسون للإنترنت يمكنهم إخفاء العزلة النفسية خلف خطاب فرص السوق والأرباح.

ميكروسوفت لها تاريخ أبعد من حاضرها الحالي، فمنذ السبعينيات طُرح أن الكمبيوتر المستقبلي سيغير الحياة الاجتماعة والنفسية، خاصة مع كتاب دانيال بيل ( قدوم المجتمع ما بعد الصناعي) متوقعاً قدوم أمثال بيل جيتس الذي جعل من الكمبيوتر معنى يمثل الوجود الإنساني عبر نموذج اقتصادي. في عام 1985 اعتبر ستيوارت براند (مخترع نظام التداول الكمبيوتري) ومجموعته (ول) أن الشبكة العنكبوتية ستسقط الحدود بين الشأنين العام والخاص، مما قد يعطي قيما وتفسيرات جديدة.. وهذا يعني أن المستخدمين لشبكته سيتأقلمون مع تحويل أفكارهم الخاصة وخصوصياتهم إلى وحدات إنتاج ودخل متبادل.. مع (ول) فكل عبارة حميمية يرقد خلفها إعلان ذاتي هي عبارة عن مناقصة ربحية للاتصال.. وهذا نشر ثقافة وتعليم في التعامل مع الإنترنت في بداياته..

ديفيد بروك صاحب الكتاب الأكثر مبيعا عام2000 أطلق مصطلح بوبو مختصرا: بورجوازي بوهيمي.. حيث تتلخص نظريته بمزاوجة ثقافة الفرد ممن لديه قدم في عالم الإبداع البوهيمي، وقدم في عالم البرجوازية الطموح. وخلطة القيم هذه أثرت كثيراً في تأسيس وتشريع طبيعة الإنترنت والذي أعاد هيكلة الاقتصاد. الآن هناك العديد من القصص المؤثرة في الإنترنت وخاصة اليوتيوب التي يخترعها أناس على أنها قصص حقيقية لحياتهم الخاصة، وينالون شهرة عالمية، وحتى بعد اكتشاف الخدعة تستمر شعبيتهم.. الكذب هنا صار خيالا إبداعيا لا غبار عليه..

مجموعة (ول) شكلت قوة في ثقافة الإنترنت تؤمن أن السوق تحتوي كل القيم، وتضع التعبير الشخصي برسم البيع. والآن فإن دواخلنا وحياتنا الخاصة يمكن بيعها كسلعة، وكلها تحت غطاء الطاقة الخارجة على قانون البوبو... في المقالة القادمة نكمل الرحلة.



alhebib@yahoo.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد