إن الضوابط القانونية - مع أهميتها - لاتحمي مجتمعاً أو أمة فقدت اهتمامها أو حماسها للتربية. إذ يغلب على هذه الضوابط أن تكون (بعدية) لا قبلية، إنها تواجه النتائج لا الأسباب.دعونا نتساءل من الذي يقوم على تنفيذ القانون؟ من يحرسه؟
من يدير آلة صناعة القوانين وتبديلها؟ من قدر على وطئه وتعطيله؟
الحلقات، كل الحلقات في النهاية، والضمانات، كل الضمانات، إنما ترتكز على التربية.
ألم نر أعرافاً غير مكتوبة، في أمم يؤمن الناس فيها بتلك الأعراف، أشد نفاذاً وتطبيقاً، من دساتير خطت بماء الذهب، وهتف بها في الاحتفالات العبرة هنا - وفي كل مكان - بالبشر مطبقا.
كان الإسلام في غاية الواقعية والترتيب المنطقي، لقد أقام أولا شبكة دفاعية كاملة من المحاكم الجزئية، محاكم ذاتية قائمة في كل نفس، تنعقد جلساتها داخل القلوب والعقول، تحت شعار منفذ (كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا) هذا هو الشرط الحضاري بينما (الاستفتاء القلبي) لا ينقطع جريانه الطاهر في مجرى الدم في كل الأمور الخاصة والعامة، وبينما (استفت قلبك) هتاف داخلي لا يتبدد..!!
وهكذا.. يتربى الناس، كل الناس، في كل يوم على احترام الشرعية الإسلامية، ومن المنطقي بعد ذلك أن يعلن دستور فإذا هو نافذ.. وأن تقام (محكمة) فإذا هي عادلة.
هل نحتاج بعدئذ لأجهزة للتصنت على هواجس العقل؟
هل نحتاج لمناظير طبية مكبرة تتجول في أعماقنا؟
التربية الإسلامية تحترم سريرة الإنسان وتقدس حرمتها فلا تهتكها، ويكفيها منا السلوك العام العلني فردياً أو جماعيا!
فلا هي تخترق البيوت، أو تقوم بالاستشعار عن بعد، ولقد أعلنها الرسول - صلى الله عليه وسلم - منذ ما يربو على 1400 عام مستنكراً من رفض شهادة من أسلم متشككا في باطنه بقوله: ما معناه هلا شققت عن قلبه؟!
ثم تولى ذلك خلفاؤه وتابعوه في التطبيق.. وأقرت معادلة تقول:
السلوك اليومي = العقيدة الحقيقية
فليست العقيدة عندنا مجرد امتثال للصلاة، والزكاة والحج، والصيام.
فالدين الحقيقي محك يومي..
السلوك اليومي = الدين المعاملة
أما ذلك الذي يكذب بالدين حقا
فهو الذي يدع اليتيم.. (سلوك)
ولا يحض على طعام المسكين.. (سلوك)
فويل للمصلين (نعم.. هم يصلون ولكن!!)
(الذين هم عن صلاتهم ساهون)
الذين هم يراؤون (يعني تمثيلية!!) ويمنعون الماعون (سلوك)
من يتجرأ بعد على فصل التربية الحقيقية، المجدية الفاعلة، عن السلوك، أو السلوك بديلا لا يرد، على حقيقة المعتقد؟؟
التربية لاتكون إسلامية إلا إذا كانت شاملة..!
والشمول يعني أن نتمكن من التحريض عليها، من كل موقع، وفي كل يوم، لتراها مطبقة بواسطة المدرسة والبيت والإذاعة والتلفاز، وبكل مؤثر تربوي هنا أو هناك أينما كان صغر أم كبر. حينئذ تسأل التربية الإسلامية عن النتائج، في المسافة من (المخدرات) إلى (الانتماء) ومن (شخصية المدرس) وتوثب التلميذ الروحي للمعرفة إلى اجتهاد الأساتذة في البحث العلمي ووصولا إلى قواعد المرور.
تسأل حينما تصبح كل المواقع تبث بثاً تربوياً متناغماً في منظومة واحدة.
فلا يقع المجتمع ضحية أو فريسة سهلة للتصادم التربوي بين معطيات البيت والمدرسة. وحينما لا يتناقض ما يكتسح به (الفيديو) و(التلفاز) مع أثر المدرسة والبيت والمسجد جميعاً.
وأن التربية تطرح علينا بصرخة واحدة: نكون أو لا نكون!
يقال إعلاميا، حينما نراها، ونشمها، ونلمسها.. سواء ركبنا ناقة، أم امتطينا صهوة طائرة وتوجهنا تلقاء العواصم الكبرى.
يهبط المسافر منا إلى مدينة أو عاصمة فيدرك أن لها (روحاً معينة) وتعرف أي تربية وأي قانون تطبقه هذه المدينة أو تلك؟
كما يمكن لك أن تعرف إذا كان المواطن فيها يؤمن بقانون بلده فيطبقه أم لا؟
ويمكنك أن تدرك نفس الشيء في بلادنا العربية.. أيضا!
لكم تبدو مشكلاتنا أحيانا كما لو كانت معضلة من المعضلات المتداخلة، ثم تبدو أحيانا أخرى لذي بصيرة، كما لو كانت يسيرة سهلة الحل.
التربية الإسلامية تبدأ من الإنسان.
الإنسان هو الصانع الأول لمشكلاته..
وهو في نفس الوقت أكبر قادر على حلها
التربية الإسلامية (تستطيع) - أي أنها يمكن أن تفعل - بشرط واحد جوهري، أن نتأكد أن لدينا الرغبة الحقيقية فيها، وأننا مستعدون للنزول في كل شؤوننا التربوية على مقتضاها.
التربية مناخ كامل وبيئة.،
التربية لا تتجرأ..!
إن التربية لمسة حنان صادقة من طبيب لمريض.
وحفظ جندي لكرامة إنسان..
وهي تنفيذ عقد عادل لأجير قبل أن يجف عرقه..
وهي مشاركتنا اللقمة مع جائع في أرض الله الواسعة تشهد بذلك عظام صدره في التلفاز.
وموائدنا ممدودة وفيرة في كل بيت.
إنها هذا التنفيذ الفوري..
ما أن تنتهي من قراءة نص، حتى تقوم من مقامك لتنفيذه..
فإذا كان القلب قدس حقا ما يرتله اللسان بخشوع، فلما إذن لا تمتثل الجوارح.
والله الموفق والهادي إلى سبيل الرشاد.