الحديث الشريف (لا تجتمع أمتي على ضلالة) شاهد ودليل رباني على أن المجتمع قادر على تصحيح مساراته، وأن اتفاق أو اجتماع الناس على شيء ما هو الأصل، وهي إشارة إلى إمكانية نجاح الأمر أو فشله ولو تم تطبيقه قسراً ضد رغبة المجتمع، وربما لهذا السبب دائماً ما نراقب كثرة الاستفتاءات في المجتمعات الديموقراطية على أي مشروع قرار جديد، وهم بذلك يحاولون تسهيل مهمة المسؤول، وتعزيز فرص نجاحه عندما يقدم على اتخاذ قرار ما.
والضلالة أو البدعة لها مدلولاتها المعرفية الواضحة في محدثات أمور الدين والعقيدة، وما يدخل في دائرة الحرام في الشريعة الإسلامية، لكن ما أريد الوصول إليه أن هذا المصطلح المعرفي له أيضاً دلالات قابلة للتطبيق في المحدثات من الأمور الإدارية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها من النواحي التي أصابها الجمود ولكن قابلة للتغير والتطور.
فمشاركة الرأي العام وإبداؤه للرأي في القضايا العامة في غاية الأهمية، ويسهل للشارع أو لصاحب القرار أن يتخذ قراره بثقة أكبر، وتأييد الناس للقرار يجعل منهم جزءاً منه، والضلالة أن يقف المشرع أو صاحب القرار ضد اتجاه الرأي العام، وهو ما قد يزيد من حالة عدم الرضا عن قراراته، وبالتالي فشلها في حالة تطبيقها قسرا في المجتمع.
كذلك يدخل الإداري غير المتفق عليه من الغالبية في دائرة الضلالة التي يجب إزالتها، فالناس من خلال احتكاكهم بالمسؤولين تتكون لديهم رؤية، وإذا استمر إخفاق المسؤول في الاتصال بهم وفي تتبع احتياجاتهم يصلون إلى قناعة أن هذا المسؤول بدعة، ومن محدثات الأمور التي يجب إزالتها من موقع الخدمة العامة.
بينما من المستحسن أن يستمر الذين اتفقت الأمة على صلاحهم، وبالتالي تتكون لديهم حصانة ضد الدخول في دائرة الضلالة ما لم يتغير اجتماع الناس عليهم.
يدخل أيضا إصرار الإدارة العليا على استمرار هذا النموذج غير المتفق عليه من الناس في المدلول المعرفي للبدعة والضلالة، والتي لها عواقبها السلبية، وقد يصل الضلال في قرارات الإدارة إلى مستويات عالية عندما يدرك هذا المسؤول سخط الناس على نهجه وتسلطه الإداري، لكن مديره الأعلى يصر على استمراره نكاية بالرأي العام، وهذا بالفعل من محدثات الأمور التي تتنافى تماماً مع سنن الله الكونية على أرضه، فلو رجعنا لتاريخ الفشل الإداري ولمراحل الصراع في المجتمعات، لأدركنا أن الخلل كان في الإصرار على مقاومة رغبة وآراء الناس واتفاقهم على مصالحهم.
كذلك يدخل في الضلالة من أوسع أبوابها حينما يصدر مسؤول قراراً مبنياً على معلومات خاطئة ومغلوطة، ويدرك المسؤول خطأ القرار بعد صدوره، وتظهر نتائجه السلبية، ولكن يتجاوز ذلك، ولا يتحرك لتصحيح مسار هذا القرار.
والمدير الناجح هو الذي دائماًَ ما يتابع نتائج أعماله ومدى اجتماع الأمة أو المجتمع أو المؤسسة على نتائج قراراته.
سيأتي من يرافع ضد اجتماع الرأي العام وأنهم قد يكونوا أحياناً مصدراً للتخلف والتراجع، وأنهم لا يملكون القدرة على إنتاج رؤية صحيحة عن القضايا الشائكة، وقد يكون في هذا الرأي شيء من الصحة، لكنها صحة لا تقوم على قاعدة صحيحة، إذ من المفترض أولا أن لا تُعمم هذه النظرة السلبية على مختلف القضايا، وثانياً يجب توعية العامة وتثقيفهم بالأمور المستجدة مما يجعلهم أكثر قدرة على إبداء الرأي الصحيح، وعلى مشاركة المسؤول في ضمان نسب أكثر لنجاح مشروع قراره الجديد.
كذلك أخيراً يجب الإقرار بحدود أن الضلالة أو البدعة قد تختلف باختلاف المكان والزمان، فعلى سبيل المثال تعتبر قيادة المرأة للسيارة ضلالة في المملكة عند الغالبية، بينما تعتبر في البحرين والكويت حقاً مشروعاً، فقد تم إجراء استفتاء المجتمع السعودي قبل عامين على قيادة المرأة للسيارة، ووقفت الغالبية ضد هذا الرأي، وتم احترام رأي المجتمع في ذلك الوقت، لكن لو حصل وتغيرت نتيجة الاستفتاء في الأعوام القادمة يجب احترامها أيضاً، وبالتالي قد تخرج قيادة المرأة للسيارة من البدعة نتيجة لتغير الرأي العام، وتحل محلها بدعة وضلالة من نوع آخر وهكذا دواليك.