Al Jazirah NewsPaper Tuesday  24/03/2009 G Issue 13326
الثلاثاء 27 ربيع الأول 1430   العدد  13326

رب ليلٍ كأنه الصبح في الإشراق..!
د. حسن بن فهد الهويمل

 

الوفاء للنبلاء ملمح إنساني وحضاري وتربوي في آن، والأمة الجادة تجد متسعاً من الجهد والوقت والمال لتشيد بالنابغين والنابهين والمتفضلين بجهدهم وجاههم والمتصدقين من فضول أموالهم من أبنائها.

ومعرفة الفضل لذويه من المحفزات لتواصل الفضل وتوارثه بين الأجيال وإشاعته بين الناس من باب إدخال السرور على النفوس وبخاصة الأقربون للنبلاء الذين يجدون في تألق أبنائهم ما يسرهم، ومن ذا الذي لا يود لنفسه ولذويه إشاعة الذكر الحسن، مع أنه مطلب إسلامي (اذكروا محاسن موتاكم) والذين يشهدون تلك اللحظات المضيئة أو يسمعون بها من سائر الناس قد يستدركون أمرهم ويضاعفون جهدهم ليكون لهم مثلما أوتي هؤلاء، فالتألق والتفوق قبس كامن في النفوس يرقب الأجواء الملائمة ليشع بالنور والدفء، وإحساس العباقرة والاستثنائيين بأن وراءهم من يحفظ لهم ذكرهم يحفزهم على مزيد من العطاء ومبادرة الفرص المواتية، وما أضر بالأمة إلا التخذيل أو التجاهل، وما قعدت بها إلا المواقف السلبية، وكم من النوابغ من سبقوا زمنهم أو جاءوا في الوقت الضائع، وكم من نابغ ذرف دموع التحسر على الإمكانيات المهدرة لا لشيء إلا أنها جاءت في الزمن الرديء:

أضاعوني وأي فتى أضاعوا

ليوم كريهة وسداد ثغر

سيذكرني قومي إذا جد جدهم

وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر

والتاريخ لا يكتب نفسه، إنه أحداث تمر على مسرح الحياة، والمؤرخ يحبسها كما يحبس المصور اللحظة من المشاهد، وحين لا ترقد الأحداث على صفحات التاريخ تمحى من الذاكرة، وتدوين التاريخ الشفهي إنقاذ لما يمكن إنقاذه، وأجمل شيء تأريخ ما أهمله التاريخ، وما أكثر الوقوعات المهمة التي تند عن قلم الرقيب، والرجال النوابغ هم الذين يصنعون التاريخ، فإذا لم تمتد إليهم الألسنة اللاهجة بالثناء والأقلام، المشيدة بالأفضال يطويهم النسيان ثم لا يكونون قدوة حسنة لمن يأتي بعدهم، وكم من أفذاذ درجوا على مسرح الحياة، وتميزوا بعلمهم أو بأعمالهم الإنسانية أو الوطنية ثم لم يهيأ لهم من يشيع أمجادهم ويسجل مواقفهم الإنسانية فأصبح تاريخهم هباء تذروه الرياح، وخسارة الأمة في فقد القدوة وفقد التاريخ وثبات الأمم في عمقها التاريخي وسير أعلام النبلاء، والتاريخ السياسي وجهان للحياة السوية، وفقد أحد التاريخين فقد لشطر من تلك الحياة، ومن أضاع حاضره فهو لما سواه أضيع، وتفلت أحداث الحاضر من الذاكرة الجمعية قطع متعمد لتسلسل الحياة السوية.

وبلادنا بإنسانها أهل لرصد الأحداث والفاعلين، ومجالات التكريم والإشادة كثيرة ومتنوعة وكل من لاقيت يبارك مبادرات التكريم على أي شكل ومن أي جهة، سواء كان بالاحتفاء الاحتفالي أو بالتأليف أو بالأوسمة والدروع أو بالأسابيع الثقافية والمسؤولية أوزاع بين المؤسسات والأفراد القادرين مادياً أو معرفياً، ولقد حظي النابهون من أبناء البلاد بمواقف تكريم أو تخليد لذكراهم، بعثت في النفوس البهجة والسرور والاطمئنان، ولما تزل صفوف المستحقين تمتد على طول الطريق، ومن الخير أن يسعد النابهون والنابغون بحياتهم وفي حياتهم، وأن يغتبط أبناؤهم وأحفادهم بما يقدم لهم من تكريم يليق بمكانتهم وبما بذلوه من علم أو عمل متميز.

وكل منطقة أو مدينة أو مرحلة زمانية في بلادي تنطوي على كفاءات علمية وعملية جديرة بالتكريم، وما لم نتدارك الأمر فإننا نفوت على أنفسنا وبلادنا فرصاً نادرة ما كان لها أن تفوت في زمن تتوفر فيه كل الإمكانيات والإسلام يحثنا على أن نشيد بمن يستحق الإشادة وأن نوفي الكيل إذا كلنا الثناء لمستحقه وأن يكون عملنا خالصاً لا يشوبه تزلف ولا نفاق ولو نظر الإنسان إلى منطقته لوجدها زاخرة بالرجال الأفذاذ الذين يبذلون الجهود والأموال والإمكانيات في خدمة بلادهم، وهي وإن كانت سجية فيهم وتصرفاً عفوياً، وخليقة وطبعاً لا تطبعاً إلا أن ذلك يفرض على الكافة أن يعرفوه ويشكروه ولا يعرف الفضل لذويه إلا ذوو الفضل، وفي الحديث: (من أسدى إليكم معروفاً فكافئوه فإن لم تستطيعوا فادعوا له) والشاعر العربي يقول:

لا خيل عندك تهديها ولا مال

فليسعد النطق إن لم تسعد الحال

ومن النطق المسعد إشاعة الذكر الحسن ف(الذكر للإنسان عمر ثان)، والتكريم الذي يتطلع له ذوو الشخصيات الاستثنائية يأتي في ذروته حفظ الذكر عبر الكتب وتسليط الضوء على الشخصية عبر الندوات والمؤتمرات والاحتفالات، ولقد مرت البلاد بمناسبات وإسهامات تبعث في النفس الراحة والسعادة؛ إذ ما زلنا بخير -والحمد لله- وما نقوله من باب طلب المزيد.

ولعل آخر مناسبة أثارت في نفسي تلك الخواطر (تدشين) كتاب (والدي: علي بن عبدالله الحصين 1350- 1382هـ لمعده الأستاذ الدكتور عبدالله بن علي الحصين وتفضل المربي القدير الأستاذ محمد بن عثمان البشر بتوجيه الدعوة لكوكبة من العلماء والوزراء والأدباء ورجال التربية والتعليم والأعيان من أبناء بريدة لأمسية مشرقة ذكرتني بقول الشاعر:

(ربّ ليل كأنه الصبح في الإشراق

وإن كان أسود الطيلسان)

والكتاب أعاد للذاكرة شاباً طُلعة متوقد الحماس، اخترمته يد المنون قبل ثماني وأربعين سنة، وهو في عنفوان شبابه وأوج عطائه الوطني، لقد كان لموته المفاجئ في حادث مروري عام 1382هـ وهو في مستهل العقد الرابع من عمره رنة حزن وألم وبخاصة عند الذين عرفوه أو زاملوه أو اكتشفوا بعض مواهبه. فهو بحق ثاني اثنين متألقين من طلاب الشيخ العلامة عبدالله بن محمد بن حميد رحمه الله، إذ يشكل مع عميد الرحالين العلامة محمد بن ناصر العبودي ثنائياً استثنائياً في العلم والذكاء والمعرفة واستشراف المستقبل، وكان مع ثلة من الشباب قد وصلوا حبالهم بالتراث والمعاصرة، ولعلَّ صلتي المبكرة بالأدب المصري المعاصر في الثمانينيات من القرن الهجري الماضي على أيديهم حين جلبوا المجلات كالهلال والرسالة والمصور وآخر ساعة والكتاب المصري والمقتطف وكتاب الهلال وسلسلة اقرأ وكتب العقاد وطه حسين والزيات ومبارك والحكيم ومحفوظ ومحمود وفتحوا مكتبة عصرية يرتادها الشباب للتزود من أحدث الإصدارات، لقد تقلب في عدة مناصب تربوية وإدارية وكان من أوائل حملة الشهادة الجامعية ومن المتفوقين الذين كرمهم الملك سعود -رحمه الله- حين حضر حفل التخريج.

والكتاب الذي استقبله أبناء بريدة بتظاهرة ثقافية حضرها معالي رئيس مجلس القضاء الأعلى الشيخ الدكتور صالح بن عبدالله بن حميد ومعالي الشيخ محمد بن ناصر العبودي ومعالي الدكتور علي المرشد ومعالي الشيخ محمد بن عودة السعوي وثلاثة من مديري التعليم السابقين في القصيم وعدد كبير من الأدباء والأعيان ورجال التربية والتعليم، هذا الكتاب يكشف عن جوانب مهمة من حياة الفقيد، فهو يقع في بابين وثلاثة عشر فصلاً وملحقين وذروة سنامه الفصل الأول من الباب الأول وهو عبارة عن ذكريات وانطباعات معاصريه ومجايليه، وتلك البادرة اقتفاء لأثر الأوفياء الذين استدعوا بكتاباتهم شخصيات وطنية تميزت بعلمها الأصيل أو بعملها الإنساني أو الوطني الخير، وتحريض للقادرين على الكتابة لتناول مزيد من تلك الشخصيات.

فعلى مستوى المنطقة أعدت كتب قيمة عن بعض رجالات القصيم الذين بذلوا علمهم أو جهدهم أو مالهم في الخدمة العامة، وآثروا على أنفسهم في أحلك الظروف، ولقد أثنى الله على الذين يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، و(نَجْد) مرت بظروف صعبة اختل فيها الأمن وشحت فيها الأرزاق وبرز في هذه الأثناء محسنون ومحسنات أقرضوا الله قرضاً حسناً، وبعد أن استتب الأمن والرخاء والاستقرار وتوحدت البلاد على يد المؤسس وأفاء الله عليه وعلى رجاله كل مقومات الحياة الكريمة أصبحت البلاد بحاجة إلى من يسعى بحاجاتها من تنمية وإعمار ومتابعة لمشاريعها، فكان أن نجمت فئة صالحة تبذل جهدها ومالها وخبرتها ووجاهتها وتشد من عضد المسؤولين.

والشباب اليوم أحوج ما يكونون إلى التعرف على هذا النوع من المواطنة للاقتداء.

وفي المقدمة التي تُوِّجَ بها الكتاب بقلم صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن بندر بن عبدالعزيز استنهاض للخلف لتدوين تاريخ السلف ليكون في متناول ناشئة البلاد قدوة صالحة.

ومنطقة القصيم حظيت بكفاءات وطنية أنجبتها أسر كريمة كتب عن بعضها ولا يزال البعض بحاجة إلى من يكشف عن أبعادها الإنسانية والعملية والعلمية والتربوية والوطنية، فلقد كُتب عن الصحفي الرائد سليمان الدخيل والرحالة العلامة محمد العبودي والوجيه حمد المالك والدبلوماسي محمد الشبيلي والتربوي صالح بن سليمان العمري والأديب صالح الوشمي والعالم الورع صالح البليهي وآخرين لا أذكرهم وعلى قوائم الانتظار أمثالهم، فهل ينبري المقتدرون لجمع المعلومات وإبرازها للناشئة لتكون قدوة صالحة ووفاء من الخلف للسف، أرجو ألا تفوت الفرص.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد