Al Jazirah NewsPaper Saturday  14/02/2009 G Issue 13288
السبت 19 صفر 1430   العدد  13288
لو كنت بنغالياً!!
فوزية البكر

 

حشرني مثل البهائم مع كل هذه الجموع المغرقة في فقرها وحاجتها وضيق رؤيتها للعالم بفعل الحاجة وبعد الأحبة، وحرمني من الحد الأدنى لشروط المعيشة الإنسانية وأوقف إلى جانب ذلك دخلي الذي لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة من مئات الريالات وتوقف عن إطعامي، ويسألني بعد ذلك لماذا أتحول إلى مجرم يعيث فساداً في قاع هذا المجتمع الذي لا يرحم؟؟

في ذات اليوم الذي نشرت فيه مقالتي الأسبوع الماضي بعنوان (يجب أن نتوقف حول الأوضاع اللا إنسانية للعمالة الغير ماهرة في بلادنا) نشرت جريدتنا الجزيرة بتاريخ (6-2-2009) صورة لأكثر من ثلاثمائة عامل بنغالي حشروا في الجحيم في بقعة سوداء من كهوف الرياض وتولى أهل الخير رعايتهم وتأكيلهم ودفع أجرة مسكنهم حين تقاعس وكلاؤهم عن أداء هذه الالتزامات الأساسية تجاههم!

الدهشة تعقد لساني لكل هذه العنصرية التي تقطر بها الصحافة المحلية ومواقع الإنترنت ونكات المحليين حول (الخبث الطبيعي) و(سوء المنبت الطبيعي) للعمالة البنغالية على وجه التحديد كما لو أنها اختارت أن تكون كذلك بفعل طبيعتها الشريرة التي هي جزء من تركيبها العقلي والبيلوجي.

وفي ذات السياق قامت إحدى الباحثات في إحدى مقررات الماجستير من جامعة الملك سعود بدراسة اثنوجرافية صغيرة لعينة من العاملات المنزليات للتعرف على رؤيتهن للمجتمع السعودي، وأظهرت الدراسة (رغم محدودية حجم عينتها لطبيعة منهج الدراسة المعتمد على المقابلات والمعايشة) أن كافة العاملات غير السعوديات يعتقدن أن كل (المدامات السعوديات) أي نحن سيدات المنازل سيئات وأننا نفترض سوء النية في العاملة منذ مقدمها، وإلا فكيف يفسر سر إقفال الأبواب عليهن والتضييق بهذا الشكل المبالغ فيه وهن لا يفهمن ما يحدث حولهن ولم يشرح لهن أحد قبل قدومهن طبيعة الأوضاع الاجتماعية التي تعيشها المرأة هنا ولا ظروف العمل اللا إنسانية للكثير منهن إضافة إلى أنهن جميعا وبدون استثناء (أي عينة الدراسة) تعرضن لصورة من صور التحرش الجنسي المباشر أو غير المباشر من قبل من يعملن في بيته أو أبنائه أو أقاربه!!

من الممكن جداً أن نريح أنفسنا ونجيب على أسئلتنا الذاتية أو الموجهة من المؤسسات العالمية بأن القوانين في مكانها وأن ما يحدث لكافة الأقليات على اختلافها (عمالة أجنبية غير ماهرة، عاملات منازل، نساء وأطفال) هي حالات فردية لا علاقة بنظام المجتمع القانوني أو الثقافي بها وأن القوانين تجرم كل ما يحدث ومن ثم يتم إخلاء المجتمع من مسؤوليته تجاه القضايا العامة.

لكن الواقع الفعلي ينضح بغير ذلك بدليل تكرار المشهد في قضايا متعددة ليس أولها العمالة ولن تكون النساء آخرها مما يعني تجذرا قيميا لمفاهيم عنصرية ضمن منظومة الثقافة المحلية يجب طرحها في الفضاء العام لمناقشتها وفهم جذورها التاريخية والثقافية.

إن مناقشة هذه المفاهيم بما يترتب عليها من ممارسات لا يضيرنا أو يشوه من سمعة بلادنا بل ما يفعل هو الصمت وادعاء التطهر أو كما يقول الكاتب عبدالله المطيري (الفيلسوف السعودي المستقبلي) في مقالته حول منظومة الأخلاق في عصر التنوير والمنشورة يوم الأربعاء الموافق 11-2- 2009 في جريدة الوطن حيث يرى أننا نواجه دعاية صوتها عال وأثرها كبير وقيمتها ضارة تدعي أننا على أعلى المستويات الأخلاقية وتمارس مدح الذات بطريقة فجة مما ساهم في تخدير فكر النقد والمراجعة والمساءلة وهو ما سبب استمرار وتعميق العطالة الفكرية والتخدير للعقول والأرواح.

الكثير من هذه المسلمات التي نعيشها ونختلف اليوم على الممارسات التابعة لها قائمة على أسس فكرية لم يعد لها رافد في عصر الدولة الحديثة فشعور البدوي بالتفوق تجاه (الأجناب) أي كل من هو خارج قبيلته أو من خارج الوطن كان مبرراً بالتقسيمات القبلية التي كانت تقدم الحماية والعزوة وشبكة الاتصالات الاجتماعية والقيمية.. اليوم لا مكان لنا من غير (الأجناب) هؤلاء فنحن نعيش ونأكل ونتبادل نظمنا الاقتصادية والمعرفية والدولية معهم ومع بلدانهم وهم يحتاجون لنفطنا وبعض نقودنا كما هي حاجتنا إلى معرفتهم أو مهاراتهم أو خدماتهم أيا كانت درجتها. مشكلة الشعور بالفوقية أنه يولد دائماً شعوراً بعجز الآخرين الثقافي لعدم تماثلهم في لغتهم وسلوكهم وأطباعهم مع نموذج السلوك أو رد الفعل الذي يفرضه صاحب الفوقية؛ ولهذا فهم كما يطلق عليهم الكثيرون (بهم) (ما يفهمون) كما أن الشروط الإنسانية البسيطة لا تنطبق عليهم فإذا كنا نحب أن ننام في مكان مريح فالعبارة التي تسمعها تجاه شغالة أو سواق أو عمالة غير مؤهلة (عاد يحمد الله.. هذا كثير عليه ميت من الفقر في بلده) وكأن الفقر ينقص من القيمة الإنسانية لمن أمامنا ويحول شروط المعيشة الأساسية إلى شروط مخففة تضع هؤلاء (الأقل) في معيار إنساني متدن عن الذي نفرضه لأنفسنا ومن حولنا من (أولاد وبنات الحمايل) وهو ما يفسر مثلا أن بعض النساء حتى لا يلتزمن بالشروط الصارمة للحجاب أو الفصل وهي الأمور التي تفرض دون مناقشة حينما يوجد في الحيز رجال سعوديون!!

هناك توجهات قيمية تحمل مضامين عنصرية تؤكد عليها جوانب الثقافة المحلية ومن الضروري أن نطرحها للنقاش وأن نفهم بنيانها التاريخي والثقافي حتى نتمكن من فهم أنفسنا ومراجعة سلوكنا بناء على ذلك.

إن أنماط السلوك المنتشرة في الشارع والبيوت والمؤسسات مع هذه العمالة لا تجعل هذه الأنماط السلوكية صحيحة مهما انتشرت وتجذرت كما هي الآن فهي مبنية على أسس عنصرية فعلا تؤمن بتمايز الأعراق وتقلل من قيمة الأشخاص، أما بسبب أديانهم أو مذاهبهم أو ألوانهم أو مستوياتهم الاقتصادية أو نوع جنسهم (ذكر، أنثى). ولك أن تنظر في شبكة علاقاتك الاجتماعية فهل لدى ابنك صديق أسمر أو صديقة سمراء إلا فيما ندر؟؟ وهل ترغب أو مستعد لأن تقبل في أن يعاملك منسوبو المكان الذي تعمل فيه بنفس الطريقة والاتجاه والكلمات التي يتعاملون بها مع العمالة غير السعودية؟؟ وبربك اجعلها دعوة للاكتشاف والتطهر والبس مثل عامل بنغالي تماما وضع تلك النظرة المنكسرة على ملامحك واستمتع بعدالة الشعب السعودي في الشارع والبقالة في التعامل معك سواء قابلت طفلاً أو كبيراً أو رجل مرور أو رجل هيئة ثم سندعوك هنا في هذه الجريدة لتحكي لنا تجربتك (المرة) فلعلها تطرح مسلماتنا وقوالبنا الذهنية حول الشعوب والأشخاص على الطاولة.




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد