ما من فتنة ظلماء حلت بالإسلام وأهله إلا وتصدى لها العلماء فأبانوا عوارها ومداخلها وقبحها وضررها ونصحوا الناس اجتنابها وبينوا حكم الله فيها إحقاقا للحق وإزهاقا للباطل وعملا بقول الله جل وعلى: (لتبيننه للناس).
ومن عهود الخلافة الإسلامية الأولى إلى يومنا هذا ظهرت فتن عديدة أراد أهلها بالإسلام والمسلمين شرا عظيما ومن تلك الفتن
وأخطرها فتن الفرق الضالة التي ابتدعت في دين الله ما ليس منه في العقيدة والفقه وأصول الشريعة عامة من أمثلة ذلك ما شاع عند بعض العامة في بعض البلاد من سب الصحابة أو الغلو في آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم أو نفي الصفات أو التكفير بالكبيرة وقد تصدى لتلك الفتن أئمة الهدى أمثال البخاري والإمام مالك وأحمد ابن حنبل وابن تيمية وابن القيم وغيرهم فكشفوا باطلها في مناظراتهم ومؤلفاتهم وفتاواهم.
ولم يخل عصر من عصور الإسلام إلا وظهرت فرق من تلكم الفرق أو قريبا منها إما بتفريع عنها أو اختلاف معها في شيء من الأصول أو الفروع, فتعدد الفرق الضالة جاء من تعدد الاختلاف بينها ولم يخل عصر من العصور من فرق ضالة تحيي أصول تلك الفرق وإن لم تدع اسمها وعنوانها والانتساب إليها! ففي عصرنا هذا مثلا ظهرت فرقة العقلانيين كاتجاه يقضي بسلطة العقل على النص مطلقا وتفرعت منها مدارس وطرائق.. وهذه الفرقة (العقلانيون) هم معتزلة العصر بتأصيلهم الاعتزالي القاضي بسلطة العقل على النقل! كما ظهرت فرق عديدة في مجتمعاتنا تلتقي في الأصول والعقائد مع الفرق الضالة القديمة وأصبح لها سطوة على المجتمع وصوت يسمع ومقال يقرأ ونواد ينشط فيها رؤساؤها وزعماؤها!
وما يهمنا من هذه التقدمة هو التساؤل عن دور العلماء اليوم في عصرنا هذا - عن دورهم في التصدي لهذه الفرق والتعريف بشرها وبذل الجهد في توضيح خطرها وخطر فكرها على الإسلام والمسلمين!!
فإن بيان حال الفرق المستجدة على ساحتنا الفكرية اليوم من أوجب الواجبات المحتمات وإن مما يقتضيه هذا الواجب دراسة حال هذه الاتجاهات الفكرية المعاصرة من قبل العلماء الكبار وفق حالها ومواقفها وعقائدها وطرائقها وأفكارها ليسهل على العلماء بيان شرها للناس بالحجة والدليل تماما كما فعل علماء الملة في التصدي لفرق الزيغ والضلال الأولى! وهنا أود أن أشير إلى أن الخلاف مع كثير من تلك الاتجاهات ليس مجرد خلاف فكري في تفسير ظاهرة أو تحليل حدث وإنما هو في صميم العقيدة وأنها أشبه ما تكون بفرق الضلال القديمة بل أضل منها.
لقد وصل ببعض من يصفون (أنفسهم) بالليبراليين والعلمانيين في بعض المنتديات الإليكترونية من غير أن يصفهم بذلك (أحد) ويعتزون بهذا التصنيف - وصل بهم الحال إلى الدعوة لإلغاء تحكيم الشريعة وتعطيل أحكام الله في الأرض بل وصل ببعضهم الحال إلى سب الإسلام ورموزه وأكثر من ذلك وأعظم وأطم سب رسول الله صلى الله عليه وسلم بل سب الله!! تعالى الله وتقدس عن إفكهم وضلالهم علوا كبيرا!! وما كان سبهم هذا في سياق جهالة عابرة بل في سياق الدعوة لرفع هيمنة شريعة الله عن الحياة!!
ولا يعنينا أن يكون إظهار هذه الاتجاهات لضلالاتها في العقيدة والتوحيد ومخالفاتها لأصول الإسلام جاء ضمن نية حسنة هي إرادة إصلاح أحوال المجتمع فإن كل صاحب بدعة وباطل لا بد أن يكون له مخرج لبدعته وضلاله فالجهمية نفوا الصفات خوفا من تجسيد الذات الإلهية والمعتزلة خالفوهم خوفا من تعطيل الصفات عن الله وأولوها هربا من شبهة التجسيد كما توهموا! وكذلك الخوارج إنما خرجوا على علي رضي الله عنه وكفروا بالكبيرة ظنا منهم أنهم يصلحون ما أفسد الناس ولذلك لم يكفر أهل العلم هؤلاء لما يشوب ضلالاتهم من جهل وتأويل !! وإنما حكموا عليهم بالابتداع والضلال والانحراف عن منهج أهل السنة والجماعة, والقصد من هذا أن الدافع الحسن لا يعني صحة الاعتقاد والموقف والعمل، فلا يشفع لمنهج الليبرالية والعلمانية ادعاؤها الحرص على الإصلاح والتنمية ورقي الإنسان فما يدلنا على صلاحها أو فسادها هو صحة معتقدها وموافقتها لشرع الله فهو المعيار والحكم والميزان { فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ}.
نريد من العلماء الأجلاء الفضلاء مع الشكر والدعاء لما قدمه بعضهم مزيدا من كشف العوار وهتك الأستار لما انطوت عليه تلك الشعارات والصيحات.. نريدها قومة صدع بالحق في وجه العلمانية الداعية لفصل الإسلام عن دول المسلمين وتهميش شريعة الله في الأرض وكذلك الليبرالية القائمة على الحرية الشخصية المطلقة المتنكرة لضوابط الإسلام. ونريد منهم توعية مجتمعنا خاصة وأمة الإسلام عامة بخطورة هذه الاتجاهات فإنها نسخ أخرى من نسخ أهل الاعتزال والضلال قد مزجت بعقائدهم وفلسفاتهم نزوات أهل الأهواء وعباد الشهوات ولذلك نجد في مقالاتهم وكتبهم ومنتدياتهم الإليكترونية اليوم دعوة لتنشيط الاعتزال وبعث كتبه ومقالاته وأفكاره وعقائده وما ذلك إلا لموافقتهم له في سلطة العقل على النقل وفي ذات الوقت هجوما كاسحا على كتب السنة والتفسير والفقه والاعتقاد ورموز السنة وأئمتها أمثال الإمام أحمد والأئمة الأربعة والإمام ابن تيمية الحراني وابن القيم الجوزية ومن تبعهم حتى الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب.
إن أهل السنة هم السواد الأعظم اليوم وما اللبراليون والعلمانيون وأهل المناهج الغربية فيهم اليوم إلا كنبتة شوك في أقصى طرف جنة نخيل! أيعقل أن يقف أهل العلم والحال كما ذكرت في موقف الدفاع عن اتهامات توجه لهم من نكرات أفراد لا يمثلون من الأمة شيئا!! أيعقل أن تكون الأمة برموزها وعلمائها ودعاتها في موقف دفاع وحقها ودينها وموقعها وقوتها تفرض أن تكون في موقع المعلم المربي الناصح المشفق على هؤلاء الضائعين التائهين بين متاهات التغريب والعلمنة وغيرها من المناهج الدخيلة!
***