Al Jazirah NewsPaper Monday  12/01/2009 G Issue 13255
الأثنين 15 محرم 1430   العدد  13255
إلى من ليس في قلوبهم مرض2-2
د. عبد الله الصالح العثيمين

 

كان مما أشير إليه باختصار في آخر الحلقة السابقة من هذه المقالة مواقف قادة وطننا العزيز من قضايا أمتنا عموما وقضية فلسطين خصوصا، وهي - ولله الحمد - مواقف مشرفة لا ينكر عظمتها من في قلبه ذرة من إنصاف. ....

.....وفي هذه الحلقة سيكون الحديث مركزا على موقفي حركتي فتح وحماس، اللذين أوصلا إلى ما أوصلا إليه من أوضاع يتبيَّن ما إذا كان من يحملون حركة حماس مسؤولية الجريمة المرتكبة ضد غزة على حق أو على ضلالة. والحديث - كما ذكر في الحلقة السابقة - ليس عن فريق لا يجهلون الحقائق، وإنما في قلوبهم مرض أساسه كره أي توجه إسلامي وأي فكر، أو موقف، مقاوم لأعداء أمتنا.

كان ينظر - فيما مضى - إلى كلمة (الجهاد) على أنها كلمة قرآنية لها قدسيتها، وعلى أنها ذروة سنام الإسلام، كما ورد في الحديث الصحيح. لذلك كانت محببة إلى نفوس المسلمين، مستحبة الاستخدام؛ بل وربما كان العمل بموجبها محببا. والحديث عن جهاد الفلسطينيين قبل إقامة الكيان الصهيوني على أرضهم الطاهرة المباركة عام 1948م، حديث يطول ويطول جدا.

وما عاناه الشعب الفلسطيني حينذاك من مجازر وتقتيل وتشريد أعظم كثيرا من أن يتحدث عنه في مقالة صحفية. أما بعد إقامة الصهاينة لذلك الكيان فإن من المعروف أن انطلاق الفدائيين الفلسطينيين لمهاجمة المحتل الصهيوني كان من غزة التي تحترق، أو كمل احتراقها، بنار الصهاينة ذات الوقود، وكلنا على ما يفعله أولئك المجرمون بالمقاومين والأبرياء شهود.

وفي حرب الاستنزاف الصامدة على الجبهة المصرية التي استشهد في خضمها البطل العظيم عبدالمنعم رياض ارتكب الصهاينة جريمة قصف مدرسة حوض البقر، واستشهد من استشهد من الأطفال نتيجة تلك الجريمة البشعة. وكان ذلك قبل أن توجد حركة حماس وأمثالها من حركات المقاومة الفلسطينية. إنها الطبيعة الصهيونية العنصرية لا تتغير أبدا ولا تتبدل. والذين يحلمون بتغيرها وتبدلها واهمون كل الوهم مهما تذللوا ومهما تقبلوا من إملاءات، ونفذوا ما يوحى إليهم بتنفيذه من إجراءات.

ثم جاءت حرب 1973م لتؤكد للفلسطينيين - كما لغيرهم من العرب والمسلمين - أن المنطلق الإسلامي لأي عمل من أعمال المقاومة منطلق سليم. فكان أن قامت حركة حماس مع استمرار حركات التحرير الفلسطينية الأخرى. ثم حدث ما حدث من تطورات في منطقتنا العربية، فانقلبت الأمور رأسا على عقب تقريبا. وبدأت الأمور تسير سيرا من ملامحه أن التوجه الإسلامي الصامد يزداد ضعفا لدى القيادات العربية، وإن كان يزداد قوة عند شعوب تلك القيادات. وكان أن جاءت اتفاقية كامب ديفيد التي نجح بها الصهاينة في تحييد أعظم قوة عربية في المواجهة معهم. ومن المعروف أن العرب في مواجهتهم مع العدو الصهيوني يصعب عليهم أن يكسبوا معركة حقيقية بدون تلك القوة العظيمة.

ولقد تزامن مع حدوث تلك الاتفاقية التي كانت إضعافا لقضية فلسطين بالذات حدوث الثورة الإيرانية التي أطاحت بالشاه وسافاكه المتعاونة مع الموساد الصهيونية. وكان من علامات انقلاب الأمور رأسا على عقب أن إيران التي كانت تمد الكيان الصهيوني بالوقود قطعت علاقاتها مع ذلك الكيان وأحلت سفارة للفلسطينيين محل سفارة الصهاينة في طهران. لكن مصدر القوة العظيمة أصبحت هي التي تمد ذلك الكيان بالنفط والغاز منذ تلك الاتفاقية التي آخت بين الرئيس السادات الراحل والصهيوني المجرم الهالك، بيجن، في نيل جائزة نوبل للسلام. ثم جاءت نكبة احتلال جيش صدام حسين للكويت؛ ظلما وعدوانا وحماقة، تعطي مبررا للاستعانة بأمريكا المتصهينة التي هي من ألد أعداء أمتنا فيما يتعلق بقضية فلسطين، والتي من المرجح جدا أنها كانت تحلم بحدوث ذلك الاحتلال وترحب به لأنه سيمهد لتثبيت أقدامها في المنطقة أكثر فأكثر.

وإذا كان باب الاعتراف بشرعية الكيان الصهيوني على أرض فلسطين قد فتحه زعيم مصر، عام 1979م، فإن بقية زعماء العرب قد جعلوا الباب مفتوحا على مصراعيه بعد الاحتلال الصدامي للكويت. فكان مؤتمر مدريد، ثم انفرط بالتوالي العقد النضيد. ومما يدل على ذلك كله أن قادة العرب في اجتماع من اجتماعاتهم التي لا يزيد آخرها عما سبقه إلا إظهارا أكثر للاستكانة والذل، أعلنوا أن السلام مع إسرائيل هو خيارهم الإستراتيجي، ولم يشيروا مجرد إشارة إلى أنه إذا تعذر تحقيق العدل سلما فإن الخيارات الأخرى تبقى مفتوحة. ومقتضى ذلك أن أولئك القادة سيقفون ضد أي مقاومة لتحرير الأرض بالكفاح المسلح.. وهذا هو ما حدث فعلا.

وجاءت اتفاقية أوسلو - وبنودها المعلنة يعرفها الكثيرون - لتمهد لمرحلة لم تشهد إلا مزيدا من تهويد الصهاينة للأراضي المحتلة عام 1967م بما فيها القدس ومسجدها الأقصى، واستمرارا في ممارسة الجرائم الصهيونية العنصرية. وكانت عاقبة من وقعها - نيابة عن الفلسطينيين - أن حوصر في مقر السلطة حتى شوهدت بوادر وفاته. ولم تشفع له جائزة نوبل للسلام مشاركة مع الصهيوني رابين الذي كان من مناقبه إصدار الأوامر لتكسير عظام أطفال الحجارة. والأعمار بيد الله لكن التحقيق الذي وعد به عن أسباب تلك الوفاة لم يتح له الظهور حتى الآن وفق ما يعرفه كاتب هذه السطور. وفي تلك المرحلة ارتكبت الدولة الصهيونية؛ ورئيس وزرائها حينذاك بيريز مذبحة قانا في جنوبي لبنان ضد أناس معظمهم من الأطفال وهم محتمون بمبنى تابع للأمم المتحدة. ولم تكن حماس عند ذاك قد وصلت إلى الحكم.

وفي مبادرة من المبادرات العظيمة في مجال العمل السياسي الفلسطيني أجريت انتخابات شهد على نزاهتها من لا يتهم بالولاء لحركة حماس. وكان كثير من الفلسطينيين عند إجراء تلك الانتخابات قد اقتنعوا بأن المفاوضات مع قادة الكيان الصهيوني لن تؤدي إلى حل يعيد إليهم حقوقهم؛ إذ كان أولئك القادة يقولون ويفعلون ما يتناقض تماما مع ما توصل إليه في أوسلو. وكانت وفاة عرفات بالطريقة التي توفي بها من الأدلة على فشل تلك المفاوضات. وزاد ذلك الكثيرين اقتناعا بأن المقاومة هي الحل؛ وهو ما كانت تطرحه حركة حماس. ولقد رأى كثير من الفلسطينيين أيضا أن من قادة حركة فتح من تمادوا في ارتكاب الفساد الإداري. ومما يدلل على ذلك أن عرفات نفسه كون لجنة تحقيق في اتهام ثلاثة من الوزراء باختلاس ثلاث مئة وعشرين مليون دولار، فأدانتهم تلك اللجنة، لكنهم بقوا وزراء. ولم يتورع أحد قادة فتح - فيما بعد - عن المشاركة في بيع الأسمنت إلى الصهاينة لبناء جدار الفصل العنصري، الذي قطع أوصال الضفة الغربية.

وكان ما سبق ذكره مما جعل أكثرية الشعب الفلسطيني تنتخب حركة حماس بناء على برنامج من أسسه تبني المقاومة المسلحة عاملا أهم في الصراع مع العدو الصهيوني. فغصن الزيتون الذي كان يرفعه الرئيس عرفات إلى جانب البندقية قد همت وألوت به الرياح. فماذا كان الموقف من ذلك الاختيار الشعبي؟

أما الصهاينة وأعوانهم من المتصهينين في أمريكا وبريطانيا والمنافقين في أوروبا فرفضوا ذلك الاختيار من البداية، وعدوا من اختارتهم أكثرية الشعب الفلسطيني لحكمهم منظمة إرهابية. ومعنى ذلك بجلاء اتهام الشعب الفلسطيني بأكثريته بأنه شعب إرهابي. وكان ذلك الموقف المنافي لما يتشدق به المتشدقون حول الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان أكبر دليل على مدى عداوتهم للعرب والمسلمين، وإن ظن بعض أصحاب النوايا الطيبة أنهم قادرون على تغيير تلك العداوة إلى وئام. لكن ماذا عن موقف العرب والفلسطينيين من حركة فتح تجاه ذلك الاختيار الشعبي؟

أما العرب فكان من قادتهم - كما ذكر سابقا - من تملكهم الخوف من تنامي التوجه الإسلامي لدى المجتمعات المسلمة. ولذلك فإن منهم من أخفى انزعاجه بنجاح حماس في الانتخابات، وإن بدا - فيما بعد - ما كان يخفيه أو شيء مما كان يخفيه. ومنهم من لم يستطع إخفاء انزعاجه فصرح بأنه (لن يقبل قيام إمارة إسلامية) بجواره. وهو في هذا الموقف لم يختلف مع الرئيس الفرنسي ميتران عندما صرح في يوم من الأيام أنه سيتدخل عسكريا لو وصل (الإسلاميون) إلى الحكم في الجزائر. وأما قادة فتح فمنهم من أظهر رضاه عن نتائج الانتخابات. لكن ما أظهر - في بداية الأمر - لم يدلل على رسوخه في النفوس، التي لم تكن تظن أن نتيجة تلك الانتخابات ستكون في صالح حماس. ولذلك لم يكن غريبا أن الخلاف سرعان ما دب بين الزعامة التي اختارتها أكثرية الشعب الفلسطيني والزعامة التي لم تخترها تلك الأكثرية، وفشل ما توصل إليه الطرفان نتيجة جهود قادة المملكة من صلح بينهما. من المسؤول عن ذلك الفشل؟

الذي يذكره كاتب هذه السطور أن جامعة الدول العربية، الهيكل المكبل، وعدت بأن هناك لجنة ستشكل لتقصي الحقائق حول ذلك الموضوع، ماذا كان مصير تلك اللجنة؟ من المؤكد أن هناك من عمل على إبطال أي جهد لمعرفة الحقيقة، وتفاقم الوضع إلى أن أمسك قادة حماس بزمام الأمور في غزة. وذلك أمر مرفوض من قبل الصهاينة وأعوانهم المتصهينين، وغير مرحب به من قبل أكثر قادة العرب الذين أصبح همهم الأكبر أن تنهي مقاومة المحتل. وقام الكيان الصهيوني بسجن الكثيرين من المنتمين لحركة حماس بمن فيهم أعضاء في المجلس النيابي الفلسطيني في طليعتهم رئيسه. وبلغ تكثيف العدوان الصهيوني مبلغا عظيما، كما بلغ ضغط شخصيات عربية على حماس أوجه لتقبل هدنة مؤقتة مع الصهاينة من شروطها أن يوقف الطرفان الهجمات المتبادلة، وأن تبقى المعابر بينهما مفتوحة. لكن الصهاينة الذين ليس من طبعهم أن يفوا بعهد، لم يوقفوا عدوانهم، ولم يبقوا المعابر مفتوحة؛ بل أحكموا الحصار على غزة وأهلها حتى هب لنجدة المحاصرين من ليسوا عربا ولا مسلمين، ووقف العرب والمسلمون وكأنهم يتمتعون بذلك الحصار الفتاك.

وحان وقت انتهاء مدة الهدنة أو التهدئة بين أهل غزة بقيادة حماس وبين الصهاينة. وأراد من أراد منا - نحن العرب الأباة والمسلمين الثقاة - أن يجبر المحاصرين على تمديد الهدنة مع استمرار الحصار والعدوان حتى يفنى من يفنى نتيجة الاغتيالات والقذائف الصهيونية الرهيبة التي لم تتوقف، أو نتيجة الجوع والمرض والألم، فرأت حماس - وتؤيدها عناصر مقاومة فلسطينية أخرى - أن تمتنع عن تمديد الهدنة وفق شروط الصهاينة وأشياعهم من المتصهينين والمنافقين؛ وهي الشروط التي تصر على وقف المقاومة دون مقابل يتمثل في إيقاف العدوان الصهيوني ورفع الحصار عن قطاع غزة.

ولقد كان الصهاينة الذين رفضوا أساسا مجيء حماس إلى الحكم، قد خططوا لاجتياح غزة قبل ستة شهور، كما ذكر في مجلة المجلة (4-10-1-2009م) وغيرها من وسائل الإعلام. ولعل فيما سبق إيراده ما يوضح لمن ليس في قلوبهم مرض أن لوم حماس على ما ارتكب ضد غزة وأهلها جناية على الحقيقة. وإن كاتب هذه السطور يعتقد جازما أن الجميع سيرون عاجلا أو آجلا أن نهج حماس وأمثالها من المقاومين سيكون أوسع من محيط غزة المتكالب عليها من أعداء أمتنا داخل هذه الأمة وخارجه. ولله عاقبة الأمور.




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد