Al Jazirah NewsPaper Monday  12/01/2009 G Issue 13255
الأثنين 15 محرم 1430   العدد  13255
هل تستفيد المقاومة الفلسطينية من التجربة الأيرلندية؟
د. عبدالرحمن الحبيب

 

إستراتيجية مواجهة الاحتلال الإسرائيلي ومقاومة وجوده يمكن أن تأخذ عدة أشكال بدءاً من المفاوضات السياسية وانتهاء بالمواجهة المسلحة، مروراً بحرب اللاعنف والمواجهات المدنية.. وهذا يستدعي توحيداً بين الفصائل المقاومة أو تنسيقاً بينها كحد أدنى،،،

،،،بدلاً من أن تتواجه فصائل التحرير وتضعف بعضها البعض.. إنما الصعوبة تمكن في أن الفصائل المنخرطة في الحلول السلمية وتوقيع معاهدات، تدخل في برامج سياسية وتنموية، وفي علاقة تشاركية مع المحتل، والتزامات دولية مما يضع علاقتها مع الفصائل المسلحة في حرج قد يصل إلى الصدام. وهذا المشهد حدث كثيراً في القرن العشرين، في الكثير من أصقاع العالم. لكن هناك تجارب عالمية نجحت في تفادي أن يتحول الاختلاف إلى صدام بين فصائل المقاومة، بل وفي حالات معينة تم استثمار هذا الاختلاف لصالح التحرير.. فالفصائل التي تتفاوض سياسياً سيتحسن موقعها التفاوضي، عندما تستند على قوة مسلحة على أرض الواقع، حتى لو كانت هذه القوة من فصيل آخر في المقاومة.. فمثلاً من المتوقع سياسياً أن يرتفع السقف التفاوضي للسلطة الفلسطينية (فتح) نتيجة العمل المسلح لحركة حماس، رغم أن الأولى تعلن خلافها مع خط الثانية، والعكس صحيح..

ولعل التجربة الأيرلندية تُعد من أهم التجارب فيما يخص العلاقة بين الجناح السياسي والجناح العسكري داخل حركة المقاومة.. وأيضا فيما يخص حركة التحرير الأيرلندي مع الأطراف الخارجية. فهل يمكن أن نستفيد منها ثقافياً وسياسياً، خاصة في مسألة الإستراتيجيا والتكتيك..

تم تأسيس الجيش الجمهوري الأيرلندي عام 1919 كقوة مسلحة تعتمد حرب العصابات (وضع المتفجرات في كمائن ضد الجيش والشرطة وشن غارات مفاجئة وعمل الاغتيالات.. الخ) لتحرير أيرلندا من الحكم البريطاني. وبعد اتفاقات سياسية معقدة ومواجهات دامية، منحت اتفاقية 1921 الحكم الذاتي لأيرلندا تحت السيادة البريطانية، مع استثناء الجزء الشمالي ذي الغالبية البروتستانتية (من أصل اسكتلندي) المؤيدة لبريطانيا. ولكن الغالبية الكاثوليكية في أيرلندا رفضت هذه الاتفاقية وطالبت بجمهورية أيرلندية واحدة ومتحدة.

وقد انقسم الجيش الجمهوري حينها إلى قسمين؛ الأول قبل المعاهدة والآخر رفضها مطالباً بالاستقلال التام والكامل لكل الأراضي الأيرلندية. ونشبت حرب أهلية انتهت بنصر الأول وتحول الثاني للعمل السري.. وفي عام 1936 اعتبرت الدولة الأيرلندية أن الجيش الجمهوري الأيرلندي منظمة غير قانونية.. وفي عام 1949 أعلنت جمهورية أيرلندا مستقلة عن بريطانيا، لكن الجزء الشمالي (آلسترا) ظل تابعاً لبريطانيا، وهو ما يسمى حالياً أيرلندا الشمالية. وظل الجيش الجمهوري الأيرلندي في الخمسينيات والستينيات يشن هجماته على الجيش والشرطة البريطانية مطالباً باستعادة أيرلندا الشمالية، مما شكل خصومة ومواجهات حتى مع الحكومة الأيرلندية.

وفي 1970 مال الجيش الجمهوري إلى العمل السلمي السياسي والاجتماعي، لكن ظهر فيه انشقاق لمجموعة استمرت على ذات النهج العنيف السابق. وفي منتصف التسعينيات أعلن الجيش الجمهور نبذ العنف، ولكن المفاوضات في ذلك أخذت وقتا طويلا، خصوصاً في مسألة نزع سلاح الجيش الجمهوري الأيرلندي أو حلّ نفسه حتى وقتنا الحاضر.

ومنذ تأسيس الجيش الجمهوري الأيرلندي كجناح عسكري، كان له جناح سياسي يطلق عليه شين فين، الذي دخل باللعبة السياسية والبرلمانية، بل ونال إعجاب العديد من الأطراف السياسية لدى الخصوم، حتى أنه حظي بامتيازات من الإنكليز.. لماذا؟! لقد مارس الشين فين دهاء سياسياً نادراً، حين قام بإظهار نفسه كحركة سلمية على صعيد العلاقات الخارجية، حيث كان ينظر له كحركة سياسية، ونال تعاطفاً عالمياً. ورغم الأدلة الواضحة على ارتباطه بالجيش الجمهوري الأيرلندي الذي يُعد منظمة إرهابية، فإن قادة الشين فين أعلنوا نبذهم للعنف، لكنهم رفضوا إدانة الجيش الجمهوري الأيرلندي، وبالمقابل لم يكن الجيش الجمهوري الأيرلندي يُخرب أداء الشين فين أو يطلق حرب كلامية ضد مواقفه السياسية، أو يفضح علاقته السرية به.

وكان الإنجليز مضطرين للتعامل مع الشين فين لعدة أسباب، أولها أنها نالت اعترافاً عالمياً، والثاني، أن الإنجليز بحاجة لوسطاء للتفاوض مع العدو، ولم يكن أفضل لها من الشين فين كمفاوض مقبول قياساً بأعضاء الجيش الجمهوري، وكثيراً ما كان الإنجليز يلجأون للشين فين لإيقاف سلسلة تفجيرات أو عمليات اغتيال أو تفجير متوقعة، أو من أجل إجراء هدنة مؤقتة، مما زاد في أهمية الشين فين.

ومن ذلك الدهاء السياسي للشين فين ونجاحها في إظهار نفسها كحركة سياسية سلمية ونيلها لتعاطف عالمي، تم تسهيل عمل جماعات الضغط الأيرلندية في الولايات المتحدة، لكي تدافع عن وجهة النظر الأيرلندية، حتى أن القسم الأكبر من الدعم المالي للجيش الجمهوري الأيرلندي كان يأتي من الولايات المتحدة الأمريكية، رغم أن بريطانيا هي أقرب حليف إستراتيجي لأمريكا، بل إن البعض يعتبرهما بَلَدان بإستراتيجية واحدة في العلاقات الخارجية. وحتى على المستوى الإعلامي فكثيراً ما كان الإعلام الأمريكي متعاطفاً مع الأيرلنديين.. ولا يزال الإعلام الغربي ينظر إلى جيري آدمز زعيم الشين فين كرجل سلام!!

إن حُسن استخدم الجناحين العسكري والسياسي لمسألة الإستراتيجيا والتكتيك، جعل من الشين فين يعتمد في مفاوضاته ونشاطه السياسي على وجود الجيش الجمهوري الأيرلندي حتى وقتنا الحاضر. فرغم أن الجيش الجمهوري الأيرلندي متوقف عن العمليات المسلحة، فإنه لم يسلم سلاحه ولم يُحل نفسه، لأنه يُنظر إليه كضمانة لاستمرار فاعلية عمل الشين فين التفاوضي والسياسي، وكورقة قوية للمفاوض الأيرلندي في مواجهة الخصوم السياسيين.. ويُعتقد أن الشين فين يعتبر التخلي عن السلاح دون تحقيق اتفاقات مضمونة ونهائية بمثابة مجازفة، رغم أن الشين فين نفسه يُنكر من الناحية العلنية مثل هذا القول، ولكن هذا الإنكار يدخل في مسألة التكتيك السياسي.

وقد استفادت نسبياً الحركة الكردية في تركيا من التجربة الأيرلندية، حيث يُنظر لحزب المجتمع الديمقراطي باعتباره الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني، والحزب الأول مشارك في العمل السياسي السلمي وفي الانتخابات، فيما الحزب الثاني يعتبر حركة إرهابية في تركيا. لذا ليس غريباً أن يقوم وفد من حزب المجتمع الديمقراطي في تركيا بزيارة جيري آدمز، ربما للاستفادة من التجربة الأيرلندية في الجمع والفصل بين الجناحين العسكري والسياسي في حركة التحرر.

إن التذكير بالتجربة الأيرلندية يمكن أن يُفيد الفلسطينيين في طريقة التعاطي فيما بينهم من فصائل تحرير، وفيما بين كل فصيل وعلاقته الخارجية سواء مع الخصم، أو مع الأطراف الأخرى. أقول التذكير، لأن الفلسطينيين بالتأكيد يعرفون التجربة الأيرلندية التي ألهمت كثيراً من الحركات المقاومة للاحتلال في قدرتها على التنسيق والفصل بين الجناحين السياسي والعسكري.

وفي مواجهة الاحتلال الإسرائيلي فإن حركتي فتح وحماس مناط بهما بالدرجة الأولى أن تعملان بتكامل أو على الأقل بتنسيق أو على حد أدنى بعدم مواجهة فيما بينهما وذلك أضعف الإيمان.



alhebib@yahoo.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد