لقد تحوَّل الحذاء (الرمز!) - الذي قذف به صحافي عراقي باتجاه الرئيس الأمريكي - إلى قضية القضايا، فتغزّل به الشعراء، وهام بوصفه وتخليده الأدباء والكتاب والفنانون، وجاد الأغنياء بعشرات الملايين للظفر به، وتبرع المئات من المحامين للدفاع عن (قاذف الرمز)..
.. ونحت الظرفاء مئات النكت - وقد كدت أن أكون واحداً منهم ! -... أنا أتفهَّم - كما يتفهَّم غيري - رمزية ذلك الحادث، وما يمكن أن يعنيه في إطاره التاريخي أو السياسي أو الثقافي، ولا أحسب أن ثمة عيباً في التعبير عن مكنونات مدفونة، ما لم يخرج التعبير عن اللباقة والكياسة، ولكن يجب أن يبقى كل هذا في حدود المعقول، وإلا أضحى الحذاء (الرمز) ملهاة لنا، ومخدراً لنا؛ كي نتخدر أكثر ونتسطّح أكثر...!
نعم يتوجب علينا أن نكون عقلانيين بعض الشيء، لكي نخرج عن دوائر البلاهة التي ُتذهبُ عنا فطنة الحاضر ولا تكسبنا أهبة المستقبل... فقد أنسانا الحذاء (الملهم!) مسائل خطيرة حدثت في الوقت ذاته تقريباً وفي العراق أيضاً... ولعل من أهمها البدء بالتصويت على مسألة منح (الاستقلال الذاتي لإقليم البصرة)، والعجيب هو الغياب شبه التام لهذه القضية بالغة الحساسية!! صحيح أن هذه المسألة - بالاعتبار الإداري - تعد مسألة عراقية داخلية، إلا أنها في أبعادها السياسية والاقتصادية والأمنية تعد مسألة قومية، ولذلك فإنه يحق لنا كمثقفين ومحللين واستراتيجيين أن نتناولها من منطلقات عروبية بالدرجة الأولى وما يمكن أن تخلقه من انعكاسات مباشرة أو غير مباشرة على المستوى الوطني القطري، ولا سيما أننا نتوافر على مجموعة من الأدلة والبراهين التي تشير إلى أنها مسألة أبعد من كونها (استقلالاً ذاتياً) أو (فدرالية محلية) في منظومة (كونفدرالية) في إطار (عراق موحّد)!!
ولكي يقتنع المحتفون بالحذاء بأكثر مما ينبغي بأنهم مخطئون وغير عقلانيين في اهتماماتهم وانفعالاتهم، فإنه من المتعين علينا استدراج جملة من الحقائق والمعلومات المهمة عن تلك القضية المغيّبة، في بنود متسلسلة تاريخياً ومنطقياً:
1 - ثمة دراسات وتقارير ومشروعات كثيرة تشير إلى وجود رغبات أكيدة لدى دول كبرى - بجانب الصهاينة - بإعادة تقسيم المنطقة العربية على أسس طائفية، حيث تزعم تلك الدول بأن ذلك التقسيم سيجلب للمنطقة مزيداً من التناغم الذي يؤدي بدوره إلى الاستقرار والتنمية.
2 - منذ سقوط نظام صدام حسين ازدادت الأصوات المطالبة بتأسيس فدرالية في جنوب العراق، تنضوي في إطارها المحافظات الجنوبية الثلاث، وهي البصرة وميسان (العمارة) وذي قار (الناصرية).
3 - في 22 من يوليو 2007م، نقلت صحيفة (الديار اللبنانية) عن السفير الأمريكي الأسبق في لبنان (ريتشارد باركر) قوله - في محاضرة -: (إن الرئيس جورج بوش سيعمل خلال الفترة المتبقية من ولايته الرئاسية على وضع أسس ثابتة لمشروعات خرائط طرق لمنطقة الشرق الأوسط تنطلق من تطلعات القسم الأكبر من ممثلي الأقليات الدينية والمذهبية والعرقية التي تتمحور كلها حول ضرورة منح الحكم الذاتي لهذه الأقليات عبر إقامة أنظمة حكم ديمقراطية فدرالية بديلة للأوطان والحكومات القائمة الآن) (نقلاً عن: إبراهيم علوش، خطة تقسيم العراق.. غير ملزمة ولكنها قادمة، المعرفة، موقع قناة الجزيرة، 4-10-2007م).
4 - في يوم 26 من سبتمبر 2007م، أقر مجلس الشيوخ الأمريكي خطة (غير ملزمة) تقضي بتقسيم العراق إلى ثلاثة أقاليم تتمتع بالحكم الذاتي، وتلك الأقاليم هي: (كردستان) و(سنستان) و(شيعستان)، وقد أقرت تلك الخطة بأغلبية واضحة، مما يؤكد أنها مؤيدة بشكل قوي في أمريكا وبالذات من قبل اللوبي الصهيوني (المرجع السابق).
5 - هاجمت إدارة بوش ذلك القرار شكلياً، لإيهام العالم العربي بأنها ضد التوجه لتقسيم العراق في لعبة مكشوفة، فقد عملت منذ غزوها البربري على تكريس عوامل التقسيم من خلال بث روح الفرقة العرقية والطائفية والدينية وتبني أسلوب (المحاصّة الطائفية) وإمكانية الحصول على استقلال ذاتي بشروط ميسرة!، بل إن بعض المحللين يذكّرنا بأن إجراءات الحظر التي اتخذها بوش الأب كانت على أساس تقسيم المناطق في العراق طائفياً كنوع من التهيئة لخلق بذرة الانقسام والتخندق الطائفي منذ وقت مبكر، فالخميرة تفتقر دائماً إلى الوقت، حتى لو ِزيدَ في كميتها!!
6 - جهدت بعض الدول إلى التدخل السافر في الشأن العراقي الداخلي من منطلقات طائفية وسياسية برغماتية أيضاً، وركّزت تلك الدول على جنوب العراق، حيث دفعت بأعداد كبيرة من مواطنيها للدخول إلى منطقة الجنوب، وقد ثبت ذلك بأدلة متضافرة وتقارير دولية متعددة المصادر، بما لا يدع مجالاً للشك في صحة ذلك، وقد تسنّم مواطنو تلك الدول أعلى مراكز النفوذ والتمويل للبرامج والمشروعات السياسية والطائفية، فضلاً عن التورط في أعمال قتل وتصفية واسعة، ومن مظاهر التغلغل لتلك الدول أن بعض النماذج الرسمية التي استخدمت في منطقة الجنوب لم تعتمد على اللغة العربية - اللغة الرسمية للعراق - حيث اعتمدت على لغة تلك الدول!.
7 - يعد إقليم البصرة من أهم أقاليم العراق من الناحية الاقتصادية، حيث تشير بعض التقارير إلى أن 60 % من النفط العراقي يوجد في ذلك الإقليم، كما تشير التقديرات إلى أن قرابة 99 % من الإنتاج الحالي للنفط في العراق يأتي من البصرة، و97 % من إيرادات الاقتصاد العراقي يأتي من ذلك الإنتاج، مما جعل خبيرا متخصصا يذهب إلى القول بإن (استقلال البصرة يعني تجويع العراق كله) (انظر: خبراء: معركة البصرة ستحسم مستقبل النفط العراقي والدولة كلها، الشرق الأوسط، 8/11/2006م).
8 - بناءً على كل ما تقدم، فقد تشكلت بيئة خصبة سياسية وطائفية وثقافية للمطالبة بمنح (إقليم البصرة) استقلالاً ذاتياً؛ عبر كيانات حزبية ذات بعد طائفي، وقد ركزت تلك الكيانات على الضرب على وتر (المظلومية التاريخية) لأبناء البصرة طيلة الفترة الماضية وعدم الاستفادة من النفط والخيرات السابقة مع تهميش (الجنوبيين) في فترة نظام صدام، وحرمانهم من الوظائف.
9 - التزم المسؤولون الأمريكيون الصمت إزاء موضوع التصويت على الاستقلال الذاتي وكأنهم لم يصنعوا كل شيء!!، مع أن قانون إدارة الدولة العراقية الذي شارك الأمريكيون في صياغته العام الماضي يشدّد على أهمية تبني النظام الفدرالي للحيلولة دون (تركّز السلطة) وتغوّلها. وقد أشار أحد المسؤولين الأمريكان إلى أنهم يريدون (نظاما فيدراليا معتدلا)، وأردف قائلاً: إن العراقيين هم الذين يحددون بالضبط كيفية تقسيم سلطات الحكم (انظر: علمانيون شيعة يسعون إلى حكم ذاتي في جنوب العراق الغني بالنفط، الشرق الأوسط، 1-7- 2005م).
10 - يعارض قطاع كبير من العراقيين سواء كانوا داخل العراق أو خارجه مسألة الاستقلال الذاتي والنظام الفدرالي باعتبار ذلك تهيئة للاستقلال التام للأقاليم وفق اعتبارات طائفية، مما يعني القضاء التام على وحدة العراق الكبير، وقد عبر بعض العراقيين عن احتمالات التقسيم، ومن أولئك رئيس تحرير صحيفة المنارة الصادرة في البصرة (موفق الرفاعي)، حيث شدّد على أن الفدرالية يمكن (بعد فترة، بعد سنوات، بعد عقود ربما، أن تفسح المجال أمام أي من هذه الفدراليات لأن تقرر مصيرها بالانفصال أو بالبقاء داخل الجسم العراقي الواحد)... ويقترح الرفاعي تبني فكرة (اللامركزية الإدارية) كحل فعال وبديل آمن عن فكرة الفدرالية. (انظر: موقع بي بي سي العربية، 10-2-2005م).
11 - غياب العرب عن المشهد العراقي وضعف الفعالية السياسية في أطرها الرسمية والمؤسساتية والنخبوية أدى إلى تمرير قرار التصويت على منح إقليم البصرة استقلالاً ذاتياً، بناء على المادة (117) البند ثانياً، والمواد: (118)، (119)، (120)، (121) من (الدستور العراقي!).
12 - تم تحديد الفترة ما بين 15-12-2008م إلى 14-1-2009م للتصويت على الاستقلال الذاتي، ويكفي أن يصوت 10% من أبناء الجنوب على القرار كخطوة دستورية أولى لتشكيل إقليم البصرة.
13 - جاء في بيان (اتحاد إقليم البصرة) المؤيد للاستقلال الذاتي أنه بموجب قرار الاستقلال سيمنح الإقليم سلطات تشريعية يتمكن خلالها من تشكيل برلمان مستقل خاص بالإقليم، بواقع عضو لكل 50 ألف ناخب، بحيث يضعون (الدستور) والقوانين والأنظمة لإقليم البصرة!.
14 - يضيف بيان الاتحاد أن إقليم البصرة سيحصل بعد الاستقلال الذاتي على سلطة تنفيذية تتكون من: رئيس مجلس للوزراء ونائبين لرئيس الوزراء، إضافة إلى 25 وزارة، وأربعين وكيل وزارة، فضلا عن عشرات الهيئات المستقل.
15 - يفيض بيان الاتحاد بلغة حادة تقوم على (المظلومية التاريخية) للبصرة، كما أن البيان ينبني على اللغة التسويقية الصرفة باعتبارات ذرائعية بحتة، فالبيان يذكر حجم الوظائف الكبيرة وعددها الضخم الذي سيحصل عليها - بحسب البيان - (البصريون)، وكأن الهدف الرئيس للاستقلال الذاتي هو الحصول على تلك الوظائف!! وبالمناسبة، فقد وجدت أن الداعين للاستقلال الذاتي للبصرة هم من أشد المحتفين بالحذاء (الرمز)، (الملهم) أيضاً، ومن أكثر المطالبين بالحفاظ على سلامة الصحافي العراقي (منتظر الزيدي)!!!
لست أدري، هل نرى في مثل هذا الطرح ما يقنعنا بأن نكون عقلانيين أكثر، ونتخلص من القابلية للاشتغال بالتوافه من الأمور والرمزيات المخدرة!!
لست أدري غير انه يحسن بنا أن نتذكر مقولة مهمة لأحد المثقفين، حيث يؤكد أن (إحدى مشكلاتنا في هذا المجال أننا تحدثنا كثيراً عن خطر التقسيم في عقود مضت حين لم يكن هذا الخطر حالاً. ولكن عندما أصبح التقسيم ماثلاً، فإذا بردود الفعل عليه تبدو أقل من حجم ونوع التهديد الذي يقترب. وقد يكون ذلك بسبب تناقص طاقتنا على المقاومة، أو بفعل شيوع الإحباط وربما اليأس، أو نتيجة أننا صرخنا كثيراً منبهين إلى ذئب لم يكن قد أتى، فلما جاء أو اقترب كانت قيمة التنبيه قد ضعفت) (وحيد عبد المجيد، العالم العربي في مهب التقسيم، الاتحاد الإماراتية، 27-11-2008م).
لست أدري، غير أن الذي أدريه جزماً بأن العراق الحبيب يجب أن يبقى بلداً عربياً موحداً إلى الأبد، بكل ديانته وأعراقه وطوائفه!
Beraidi2@yahoo.com