Al Jazirah NewsPaper Saturday  20/12/2008 G Issue 13232
السبت 22 ذو الحجة 1429   العدد  13232
حذاء المثقف في المواجهة
عبدالعزيز السماري

طغت حادثة الحذاء الطائر على الأحداث في الإعلام العربي والعالمي، وتصدرت مقدمات الأخبار في القنوات العربية الإخبارية ووكالات الأنباء، ولم يعد لي خيار في موضوع المقالة الأسبوعية إلا شأن هذا الحذاء وتداعياته على الواقع العربي،

فقد أصبح مشهده القصير الأكثر مشاهدةً وربما إشادةً بين العرب بعد مشهد سقوط الأبراج في الحادي عشر من سبتمبر 2001م..

وهو الحدث الذي صفق له كثير من العرب سراً، وهللوا له في الأماكن المغلقة باعتباره نقلة في معادلة الصراع العربي الأمريكي.. بينما عبر العرب بمختلف أطيافهم القومية والصحوية والوطنية عن إعجابهم الشديد جهراً بفعلة الصحفي الشجاعة، وظهر هذا الإعجاب في قصائد عصماء ومقالات حماسية، وربما نسمع قريباً عن أغاني تتغنى بمجد ذلك الحذاء وصاحبه المثقف....

الحذاء كان دوماًَ رمزاً للنجاسة عند العرب، فيقال..الحذاء أعزك الله، ويأتي سبب احتقاره لأنه واطئ أو دوني يُستخدم لوقاية قدم الإنسان من الأرض التي عادة تكون مصدراً للقذارة والنجاسة في بيئة العرب وصحاريهم، ووصل درجة احتقاره عند بعض العرب البادية أن يمشوا حفاة بلا أحذية..، وأن يقطعوا الأدوية والصحاري بقدمين عاريتين، لكن الحضر تسمكوا بهذه العادة، وطوعوا إبداعاتهم في تطوير صناعة الحذاء، ومن أشهر أحذيتهم (النعال الزبيرية) أو النجدية، وأبدع أهل نجد في استخدام الزخرفة والألوان لإضفاء صفة من الحسن والجمال على أحذيتهم الجلدية..

ومع تقدم التحضر في السهول والأودية صار لاستخدام الحذاء فنون وأساليب جديده في استعمالاتهم اليومية، ومنها أن جعل منه بعض العرب أداة مواجهة في متناول اليد، فالعربي إذا غضب يفقد القدرة أحياناً على الكلام، ويعوض ذلك بتناول أقرب شيء إليه ليقذف به الطرف الأخر المغضوب عليه من أجل التعبير بشدة عن احتقانه وغضبه منه، لكن تقدم نظافة البيئة في الأماكن العامة والخاصة جعل من الحذاء خياره الوحيد،... كانت ولا تزال الزوجة والأولاد من أشهر ضحايا رفع الحذاء وقذفه عند غالبيتهم، ووصل تطور استعماله في المنازل لإحكام السيطرة عليه لدرجة أن ترى أحياناً أحذية في حالة إقلاع وطيران موجه ضد هدف بعيد في آخر زوايا البيت.. تماماً مثل صواريخ كروز.

لكن الموضة العالمية قلبت الطاولة على كثير من تقاليد العرب، فتصميم الحذاء صار له موضات تتجدد كل عام، وله مواصفات وخطوط وألوان، وصار هناك (إتيكيت) لطريق لبسه ثم خلعه، ولملاءمته للملابس و(الشماغ) ولربطة العنق..... باختصار دخل الحذاء قائمة الموضة من أوسع أبوابها، وصار يتصدر البضاعة الأكثر استهلاكاً في العالم. والحذاء شأنه شأن كثير من الأشياء التي كانت تتبوأ منزلة المنبوذين في ثقافة العرب.. ومع مرور الزمن تصدرت أشياءهم النفيسة، فعلى سبيل المثال كان العرب يحتقرون الصناعة والعمل اليدوي، لكن ثورة التكنولوجيا بدلت كثير من مفاهيمهم القديمة ضد العمل اليدوي، وصاروا يتسابقون على العمل يأيديهم في ورش التكنولوجيا الحديثة.. وكان الحذاء آخر المنتصرين على ثقافة العرب النرجسية ونزعتهم الفوقية..

وصل تقدير الحذاء عند العرب إلى درجة غير مسبوقة في الأسبوع الماضي، فالصحفي المثقف استخدمه لأول مرة في التاريخ كوسيلة للتعبير عن الرأي السياسي وللرد على الخصوم، وهو ما حدث في المؤتمر الصحفي للرئيس الأمريكي جورج بوش في بغداد عندما حاول الصحفي العراقي منتظر الزيدي ضرب الرئيس بحذاءيه واحداً تلو الأخر لكنه أخطأه مرتين، ولم يستطيع إصابته برغم من قرب المسافة،..

ما حدث يفسر حالة المثقف العربي وفشله الذريع في تغيير الواقع العربي، وما حدث أيضاً يبرهن أن هذا المثقف لم يعد يملك منذ بدء حركة التنوير العربية قبل قرن إلا الحذاء كآخر أسلحته لإحياء وعي الجماهير العربية، أو ربما كانت الحادثة مناسبة جداً لإعلان فشل المثقف العراقي في قيادة العراقيين للخروج من أزمات الطائفية والقبلية التي كانت أحد أهم أسباب فشل المقاومة العراقية ضد المحتل، ولعله وصل إلى قناعة أن قلمه لم يكن مجدياً، وأن الحذاء أصبح أكثر إمضاءً من الكلمة، مثلما كان السيف في عصور سبقت..

وكما ذكرت أعلاه برغم من محاولات المثقف (حافي القدمين) الجادة لتحقيق الهدف، إلا أنه أخطأه مرتين،.. ليخرج الرئيس الأمريكي وهو يبتسم ويردد أن ما حصل يعد ثمناً للحرية.. في حين نجح بعض إرهابي العرب ومتطرفوهم في تحقيق أهدافهم خلال العقدين الماضيين، فقد أصابوا أهم رموز عسكرية واقتصادية في تاريخ أمريكا برغم من استحالة عبور الحواجز التي اجتازوها على الساحل الشرقي في الولايات المتحدة، والتي بسببها قدِم الإمريكيون إلى العراق..

كما نجح المتطرفون بمختلف أطيافهم وطوائفهم بامتياز في شق صفوف الوحدة الوطنية العراقية ضد الاحتلال من خلال تفجير آخر خطوط الاتصال بين الفصائل العراقية المقاومة للاحتلال.. ولم يعد لدى المثقف العربي في ظل سيطرة تيار التطرف على المواقف السياسية العربية إلا اللجوء إلى بدائل أخرى تعوض إخفاق قلمه وثقافته.



لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 6871 ثم إلى الكود 82244

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد