يمتاز الحوار والتواصل الإسلامي الذي جاء في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة بكثير من الخصائص والسمات، نورد فيما يلي أهمها (للمزيد انظر: خالد المغامسي، الحوار آدابه وتطبيقاته في التربية الإسلامية، مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني، الرياض، 1425: 83 وما بعدها).
1) مخاطبة العقل والوجدان، فهو خطاب يحرك العقول والعواطف معاً، ولا يكتفي بواحد منهما فقط. ومن الأمثلة على ذلك .....
قوله تعالى:{ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ. الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ. رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَار} (آل عمران: 190- 192).
2) قوة الأدلة والبراهين والحجج، مثل قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} (الأنبياء: 22).
3) الوضوح والبساطة؛ فالحوار القرآني والنبوي يخلوان من التعقيد والغموض الذي يجعل الفهم صعباً ويجعل المعنى خفياً؛ فالإسلام دين لجميع فئات المجتمع، والتي تشمل البسطاء والأميين وأشباه المتعلمين؛ ولهذا تكون الأدلة والبراهين رغم قوتها سهلة الفهم، واضحة البيان. ويمكن إدراكها من قبل عامة الناس.
4) استخدام أسهل الطرق وأقربها للإقناع، ومنها: أ) التحدي { قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا}(الإسراء: 88)، ب) أخذ الخصم بموجب كلامه، وقلب الحجة عليه{ يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (المنافقون: 8).
5) تكرار الحوار من خلال تكرار الأحداث؛ فحوارات الأنبياء عليهم السلام فيها تكرار هدفه التوضيح والبيان وتبليغ الرسالة.
6) الحرص على هداية الناس؛ فالهدف الأساس للحوار الإسلامي هو هداية الناس وليس الظهور والغلبة، ولهذا يكثر فيه خطاب { يَا أَيُّهَا النَّاسُ}، أو (يَا بَنِي آدَمَ)، ويكثر فيه إيراد الحجج والبراهين على عظمة الخالق، وقدرته، ورحمته بالناس.
7) التنوع، الحوار الإسلامي متنوع ففيه حوار مع الملائكة، ومع أهل الكتاب، وحوار مع إبليس، وحوار مع الطير (الهدهد) وحوار مع النمل، وحوار مع المنافقين والمشركين، وحوار مع الملوك، ومع البسطاء من الناس، وهناك الحوار التذكير{ أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى}، والحوار التنبيهي {عَمَّ يَتَسَاءلُونَ}، والحوار القصصي، والحوار الوصفي، والحوار مع الأنبياء {وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ} الآية.
8) الحرص على آداب الحوار، فقد تجلت في الحوار الإسلامي آداب الحوار الرئيسة من استخدام العقل والمنطق، والمجادلة بالتي هي أحسن، والإنصاف، والحرص على تبليغ الرسالة، وهداية الناس، والتأكيد على أن أصلهم واحد، وأن ميزان الاختلاف هو التقوى فقط، وليس اللون أو المال أو الجاه أو نحو ذلك مما يتفاوت فيه الناس. وقد حدد الإسلام الأسلوب الأمثل في أدب الحوار في قوله تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}(العنكبوت: 46). وقد دعا الإسلام إلى اتباع الحكمة والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن مع جميع البشر عند دعوتهم إلى الإسلام، قال تعالى: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (النحل: 125).
شواهد تاريخية للتواصل والحوار الحضاري في الإسلام
التاريخ الإسلامي مليء بالشواهد والأحداث التي تدل على أن المسلمين كانوا منفتحين على العالم بداية من الفترة الأولى لانطلاق الدعوة في مكة المكرمة، بل إن الانفتاح والتواصل والتحاور مع الحضارات والشعوب والثقافات الأخرى يعتبر من خصائص الإسلام بالضرورة، فالإسلام دين لجميع الناس، ولجميع الأمم والشعوب؛ ولهذا وجب أن ينفتح ويتواصل مع الغير لنشر الرسالة وتبليغ الدعوة، قال تعالى:{(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (سبأ: 28)، وقد دخل في الإسلام في مرحلته الأولى أناس يمثلون حضارات وثقافات مختلفة؛ فبلال - رضي الله عنه - يمثل حضارة وثقافة إفريقيا، وصهيب الرومي - رضي الله عنه - يمثل حضارة وثقافة آسيا الوسطى وأوربا، وسلمان الفارسي - رضي الله عنه - كان يمثل حضارة وثقافة الفرس وما جاورهم من الأمم والشعوب.
وعندما اشتد الكرب بأصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - في مكة، تلمسوا التواصل والتعاون والأمان في حضارة وثقافة تقع خارج الجزيرة العربية، وهي أرض الحبشة، حيث استقبلهم النجاشي، وأكرم مثواهم، ووفر لهم السلام والأمن، وعندما عرضوا عليه الإسلام بالتي هي أحسن دخل فيه، وعندما مات صلى عليه الرسول - عليه السلام - صلاة الميت الغائب.
وبعد أن هاجر الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة، وأقام دولته، كتب الصحيفة التي عرفت (بصحيفة المدينة) والتي تعتبر من أقدم، إن لم تكن أقدم (عقد اجتماعي) في التاريخ. لقد أوضحت تلك الصحيفة سماحة الإسلام وتسامحه، وعدله ومرونته، ومد يده للتعاون والتآخي مع الآخر، وهم في هذا المقام اليهود الذين يعيشون في المدينة المنورة. لقد نصت الصحيفة على (أن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم.. إلا من ظلم وأثم.. وأن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم، وأن بينهم النصر على من حارب هذه الصحيفة، وأن بينهم النصح والنصيحة، والبر دون الإثم... وأن النصر للمظلوم).
هذا هو هدي الإسلام وتعاليمه بالنسبة للتواصل والحوار بين الحضارات، وهو هدي لم يكن خيالياً، و(يوتوبياً) بعيداً عن الواقع والتطبيق، وإنما هدي واقعي، وتم تطبيقه في التاريخ عدة مرات، وكان هذا الهدي رحمةً وسلاماً على العالم الذي وصل إليه، واستظل بظله، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
أستاذ علم الاجتماع في جامعة الإمام، رئيس مجلس إدارة الجمعية السعودية لعلم الاجتماع والخدمة الاجتماعية
Zahrani111@yahoo.com