لم يفتأ حزني، أو يبلَّ عطشي، أو يجفف دمعي: كتابة مقال (تأبيني) عن العزيز الراحل عبدالله نور.. وإن كنت من الذين ينيبون الكلمات للتعبير عن الرثاء، وينيبون الدمعة في التعبير عن الحزن.. فالراحل: كان يشكل حضوراً لعصر كامل، انبثقت منه صحوة تدفق الأحلام.. وقد أتى من جذور الصحراء، مغذاً - ما أمكنه ذلك - نحو ما يعشقه من جوارح العناق في كل المسافة التي لا تنتهي، وعلى امتداد المساحة التي لا تقاس.. وقد كان يراوح ما بين الحلم والوجع، ما بين اليقظة والشهقة.
وإذن..لست أريد كتابة (رثاء) أتذكر فيه عبدالله نور، وأستحضر عصراً بكامله حفَلَ بالمواقف، وتلون بالجنون القوس قزحي، وأغنانا بالثقافة، أو على الأقل: بالوعي/ المفتاح إلى النضج العقلي، وحتى الوجداني.
إنني أريد رسم (لوحة) - ما استطعت - أجسد من خلال ألوانها، وزواياها، وإضاءتها: (لقطات) تبدو وكأنها ما زالت (مخطوطة) من حياة عبدالله نور، وإضاءات فكره ومواقفه، وأصداء ذلك العمر الذي مشينا فيه (معاً) وفرادى، وتخطينا إشارات: ممنوع المرور، وركزنا راية وعلامة، وغرسنا وردة.
* * *
* كنا في رطوبة (جدة) ونسمة شتائها على استيحياء: نتحلق على كرسي أحد مقاهي طريق المدينة/ المنتجع الليلي، فرحين بقدوم هذا الفتى الأبنوسي إلينا من (الرياض) كلما ناداه الشوق إلى البحر وصحبتنا (مشتاقاً يسعى إلى أشواقنا)... ولم نكن نريده أن يتوقف عن إلقاء الشعر: يجهش صوته بالبكاء.. يصرخ حتى يوقظ صراخه نجمة تركض وراء القمر.. يتغنى ويمتح لنا من ذاكرته الخزانة: أروع وأجود الشعر قديما وحديثا .. نسمع بيت الشعر بإلقائه، فيجسد لنا صوت (عبدالله نور): صور ومعاني هذا الشعر، حتى نكاد نلمس الصورة والمعنى!
وبهذه الذاكرة اليقظة المتابعة: استطاع (عبدالله نور) أن يحشد داخلها: التاريخ، والشعر، والتراث، والحداثة، وسير الفرسان والفروسية، وأخلاق الخيل وصفات الصقور!