Al Jazirah NewsPaper Saturday  27/09/2008 G Issue 13148
السبت 27 رمضان 1429   العدد  13148
وستبقى الأجمل.. يا وطن
د. فوزية البكر

رغم أن ليالي رمضان المباركة تملأ الشوارع بالمتسوقين والراكضين لأداء حاجاتهم إلا أن يوم الثالث والعشرين منه والذي وافق لهذا العام اليوم الوطني لوطننا الأجمل يجعل الأمر أكثر تعقيدا وكثافة.. لذا كنت أذكر نفسي بضرورة تجنب المعابر الرئيسية لمدينة الرياض التي ستكون بلا شك غارقة تماما في طوفان البشر من شباب وعائلات تود أن تصرخ وتزهو بحبك يا وطن.

الناس هنا حقا بحاجة إلى الاحتفال. وسماح مليكنا المحبوب قبل سنوات قليلة بعقد مظاهر الاحتفال باليوم الوطني أعطى الناس مبررا مشروعا جدا يسمح لهم بالتعبير عن مشاعرهم دون أن تقابلهم نظرات الامتعاض والترقب المعهودة.. فرجل البوليس.. ورجل الهيئة ورجل الشارع العادي وعبر سنوات طويلة من التهيئة الذهنية المحافظة تكونت لديهم ردود فعل (يرون) أنها طبيعية تتمثل في الرفض التلقائي لأساليب التعبير العامة عن الفرح وما قد يتبعه من مظاهر سلوكية مثل الغناء في الشارع أو الضحك أو تمايل الشباب من حاملي الأعلام من داخل سياراتهم الخ من المظاهر التي تم تربية المناخ العام على التوجس منها كيلا تهدد هدوءه المعتاد ولتحفظ أنماط سلوكه ضمن المألوف المريح الذي يضمن سلوك القطيع.

هذا المناخ العام هو ما يجعلنا بحاجة إلى أعادة تربية ذواتنا وأذواقنا ومناخاتنا العامة لتكون أكثر انفتاحا وتقبلا لظاهرة طبيعية ممارسة عبر التاريخ البشري وهي ظاهرة الاحتفالات العامة والتي تلعب دورا كبيرا في تأكيد الشعور الجمعي والشعور بأننا جزء من (كل) مهم وأساسي لبقائنا... أن هناك ارض صلبة نقف عليها وننتمي إليها مع تقبلنا واعترافنا بكل اختلافاتنا العرقية والجنسية والمذهبية والفكرية. حين يلوح الشاب في حبور من نافذة السيارة بالأعلام السعودية وقد ينشد بعض الأناشيد أو يضع موسيقي صاخبة أو يطلق أبواق السيارة فهذا لا يعني تهورا طالما لم يعرض حياته أو حياة الآخرين في الشارع للخطر سواء بالسرعة أو المضايقة... هذه الاحتفالات وكيف نتعامل معها ونفلترها لتظهر الحب والانضباط في التعامل مع العام تعلمنا دروسا مهمة ليس اقلها احترام المساحة العامة للفرد نفسه وللآخرين من المواطنين والمقيمين الذين يشاركوننا احتفالاتنا.. فممارسة الفرح مشروعة لكنها يحب أن لا تتعدى على مساحتي أنا الآخر الذي أرغب مثلا في المراقبة والاستمتاع ومن هنا لا يحق لآخر أن يقف ويلقي بسماجته المفرطة على حدودي كما لا يحق لآخر أن يلاحقني بمواعظه لأكون أكثر تسترا بالبقاء في البيت وعدم الخروج إلى الشارع.

وتؤكد دراسات علم النفس الاجتماعي على أهمية الاحتفالات العامة خاصة في مرحلة الطفولة. فالارتباط بالوطن كأرض وكمفهوم لا يأتي فقط من حمل جواز السفر أو التحدث باللهجة المحلية.. أنه يزهو أكثر ويتعمق أكثر حين نتمكن من تأكيده كصفة وجدانية ثم نترجمه عبر أنماط سلوكية تحمل مظاهر الحب المختلفة التي تتراكم تدريجيا في أذهان الصغار لتشكل مع عوامل أخرى كثيرة مفاهيم الوطن والمواطنة . المدرسة بلا شك تلعب دورا كبيرا في ذلك ليس فقط عبر القيم المدرسة في مناهجها وإنما عبر كونها بوابة الحي الذي توجد فيه للتعريف بقيمة الوطن وعقد الاحتفالات على مستوى الحي وقد كان ممكنا ببعض التنسيق أن نفعل أدوار المدارس هذه السنة رغم كونها في أجازة وذلك عبر إتاحة مرافق المدرسة من ساحات أو ملاعب ليتمكن أبناء الحي من استخدامها. المتطوعون والخيرون كثر وما يحتاجونه هو صنع القرار وإدارة المنشأة في ذلك اليوم ومن ثم فلن يكون لزاما على كافة أعضاء المدرسة المشاركة ( رغم أن ذلك لن يكون كثيرا على يوم وطني ) فالطلبة من أبناء الحي والمدرسة مع بعض الآباء والأمهات سيفرحون بإتاحة الفرصة لهم للعب ادوار عامة وللشعور بالآخرين والالتقاء بهم وستتوالد الكثير من الذكريات عبر هذا اليوم لتبقي رصيدا تستخدمه الذاكرة الجمعية لهؤلاء الأطفال وأهاليهم بما يؤكد مشاعرهم الوطنية ويرسخها لتكون أكثر ثباتا ووضوحا كما انه سيفعل الدور الاجتماعي الغائب لمدارسنا التي قصرت نفسها وعزلت عالمها ضمن الحدود التقليدية القديمة للتعليم وهو محو الأمية القرائية والكتابية وليس كرئة حية تتنفس من خلالها الأحياء التي توجد فيها.

ما نحتاجه اليوم هو الشجاعة في إعلان حقنا بالاحتفال بيومنا الوطني دون قلق المواجهة.. المدارس تحتاج إلى توجيه صريح ليس فقط بترديد النشيد الوطني أو كتابة رسائل عامة بل بمشاركة كل طالب وطالبة للتعبير عن فرحهم بالطريقة التي يرونها وسنكون مدهوشين من حجم الأفكار التي سيطرحها الطلاب والطالبات لهذه الاحتفالات ويبقي تعويد الهيئة الإدارية والمدرسية التي لا تضمن قناعتها أصلا بذلك كما أن هناك اختلافات واسعة بين أعضاءها في كافة التفاصيل الصغيرة التي تتطلبها هذه الاحتفالات (هل يسمح باستخدام موسيقي أم لا) (الموقف من الأنشطة المسرحية) (المشاركة في فعاليات مع مؤسسات خارج حدود المدرسة.. هذا بالنسبة للبنات) الخ من التفاصيل التي قد تتداخل فيها كل الصراعات الثقافية والفكرية بين أعضاء المدرسة وقد تشل هذه الاحتفالات بمباركة صامتة من أدارة المدرسة حتى لو كان هناك توجيه صريح من الوزارة !!!

يمكن لليوم الوطني أن يكون أيضا وسيلة للتعبير عن مظاهر الثقافات المحلية المتنوعة داخل المملكة فلباس سيدات نجد يختلف عن لباس الحجاز كما يختلف عن الطائف وعن لباس السيدات في عسير هذا عدا عن أنماط الأكل والأناشيد والمواويل والممارسات والعادات المرتبطة بالمناسبات الاجتماعية والاقتصادية المختلفة مثل مراسم الخطبة والزواج والولادات ومواسم الحصاد الخ من أنماط السلوك والاحتفالات التي تمتلئ بها أروقة هذا الوطن الشاسع والتي لم يسمح لها يوما أن تحفظ أو أن يتم إظهارها والافتخار بها كجزء من تراث المملكة العام لغلبة فكر أوحد كان يرى أنه يجسد الأصلح في ممارسة واحدة فرض على الجميع قبولها دون الأخذ بالاعتبار هذه التنوعات الأثنية والقبلية والعرقية والثقافية داخل مملكتنا الشاسعة. وهنا يمكن للأنشطة المعقودة في المدارس أو المؤسسات الثقافية أن تعكس هذا التنوع.

الاحتفال باليوم الوطني هو تجسيد رمزي عن علاقة عميقة تترسخ في أذهان المواطنين والمقيمين عبر الممارسات العامة من احتفاليات ومناسبات وعبر النقاشات التي يجب أن يتبناها أعلام ذكي يخرج في احتفاليته عن سؤال المتسوقين في بعض المجمعات التجارية عن: كيف تشعر في اليوم الوطني ؟؟ (بماذا تتوقع أن يرد عليك وهو أمام قناة تلفزيون سعودية ؟؟؟) وذلك عبر التأكيد على حقوق المواطن مقابل حقوق الوطن وعبر السماح للمشاعر الصادقة دون تزييف أن تعلن عن نفسها حين تأمن أن المستمع من مواطن ومسئول ورجل دين يمتلك الرحابة والقبول الذي يسمح لهذا الوطن الجميل أن يضمنا بمحبة معا.. وتبقي الأجمل يا وطن !




 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد