Al Jazirah NewsPaper Saturday  27/09/2008 G Issue 13148
السبت 27 رمضان 1429   العدد  13148
طوبى ليست ليبرالية
عبدالعزيز السماري

اهتزت أركان الليبرالية الاقتصادية في أحد أهم معاقلها عبر التاريخ نتيجة لإفلاس عدد من المؤسسات المالية العريقة، مما أدى إلى نسف القاعدة الليبرالية التي تفرض الحظر على التدخل الحكومي في الاقتصاد..

وهو ما قاد واشنطن إلى إقرار أكبر تدخل حكومي منذ تأسيس الولايات المتحدة الأمريكية، ويعتبر هذا التدخل خروج عن بعض مبادئ السوق الحر وآلياته، الذي طالما افتخرت الولايات المتحدة الأمريكية بأنها قائدته والراعي الأول لنشره في بقية أنحاء العالم، وما حصل كان بمثابة الردة عن الليبرالية من أجل إنقاذ النظام المالي الأمريكي الذي يتعرض لانهيارات غير مسبوقة..

وما يحدث قد يرفع أكثر من علامة تعجب على حالة الصمت التي تسيطر على مؤسساتنا المالية وهي ترقب ما يحدث من تلاعب وانهيار وفوضى في سوق الأسهم السعودية، ومع ذلك لم تحرك هذه الفوضى والهدر لمدخرات المواطنين ساكناً للتدخل من أجل حماية السوق، وهو ما يثير التساؤل عن حرية الاقتصاد التي نطبقها، وهل نحن أكثر ليبرالية من واشنطن أم أنها حالة جشع مستعرة في أسواقنا، ولا تجد من يملك الجرأة لإيقافها، والجشع هي الكلمة التي اختارها المرشح الأمريكي مكين عندما أراد تشخيص حالة الفوضى التي تعصف بالأسواق المالية في الولايات الأمريكية المتحدة..

في ظل هذه المتغيرات العالمية الحاسمة في موطن الليبرالية قرأت منذ أسبوعين رداً للأخ الكاتب محمد بن عيسى الكنعان على مقالي (معالم الليبرالية وأخلاقياتها ورموزها المحليون) في عدد جريدة الجزيرة 13120، وكان الأخ العزيز يرى أن الليبرالية التي تناولت بعض ملامحها المحلية ليست كتلك التي تناولها في مقاله مثل حلم طوباوي جميل، وليسمح لي الأخ الكنعان أن أعلن عن اختلافي معه في فهمه الكلي والمثالي لليبرالية إذ أرى أنه من الخطأ الجسيم أن ننظر الليبرالية كمنظومة فكرية متكاملة أو ككل لا يتجزأ كما هو الحال في الأديان السماوية، فالليبرالية لم تكن وحياً منزلاً، ولكن منظومة من الأفكار التي عبر عنها عدد كبير من فلاسفة الغرب في مراحل زمنية مختلفة، وقد تحمل في داخلها عدة اتجاهات متضادة، والليبرالية قد تعني ظاهرياً الحرية في مختلف نواحي الحياة أي في الاقتصاد والسياسة والفكر والمجتمع والأخلاق والحقوق، لكن كان لكل مرحلة زمنية فهم معرفي أو إبستمولولجي خاص تحكمه ثقافة المجتمع وحالته السياسية والاقتصادية والفكرية، فمثلاً حرية الاختيار والحقوق التي عبر عنها جون لوك في فلسفته ونظريته السياسية مهدت لثورة ضد الإقطاع والاستبداد الكنسي والسياسي...

هكذا كان الفهم المعرفي لمصطلح الحرية في تلك الحقبة الزمنية، ومع ذلك لم تخلو أطروحة جون لوك في رسالة التسامح (1689) من محور الحرية الاقتصادية، وقد نصت رسالته الشهيرة على ثابتين من الأفكار الليبرالية الأساسية: أحدهما الحرية الاقتصادية، وحق في الحصول على واستخدام الممتلكات، والآخر الحرية الفكرية، وفي وقت لاحق قدم لوك فلسفته عن فكرة الحقوق الطبيعية التي يراها على أنها (الحياة والحرية والملكية). أو (نظرية الحقوق الطبيعية) التي أسست المفهوم الحديث لحقوق الإنسان...

تبدلت مفاهيم الليبرالية المعرفية وتطورت مقولاتها ومبادئها إلى فلسفة مختلفة نوعاً ما وتحكمها تيارات المنفعة واللذة، والتي كانت حسب وجهة نظري الإيدولوجيا التي قامت على أكتافها مبادئ الليبرالية الحالية في تطبيقاتها الكونية، ومن خلال هذا الاتجاه..

أصبحت الدعوة لتحرير الاقتصاد فرس الرهان في أساطيل الغزو الغربي، وهو رؤية هدفها المعلن تحويل المجتمع إلى مجتمع السوق ليكون الأرضية التي تنطلق منها الليبرالية، وكما عبر عنها المنظر الاقتصادي للحقبة الاقتصادية العالمية الحالية، وزعيم مدرسة شيكاغو ميلتون فريدمان أنها الحركة الاجتماعية والثقافية والسياسية التي تتطور عبر الدوران حول حركة السوق الحر، والسوق هو الاجتماع في مكان وزمان محددين، من أجل عقد صفقات....

بمختصر القول الليبرالية التي وفدت إلى بلاد الشرق جاءت في ظل غطاء استعماري..

وتعتمد أخلاقياتها على رؤية قاصرة للأخلاق الأبيقورية أو على وجه الدقة على نزعة موغلة في النفعية البنتماية نسبة إلى جيرمي بنتام، وتسعى لخدمة هدف موحد وهو الربح المادي، وهذا الاتجاه الليبرالي لا يؤمن بحتمية حقوق الإنسان أو الديمقراطية أو اتجاهات الضمان الاجتماعي، بل النقيض هو ما يحدث فهذه الليبرالية غير منضبطة في حريتها وتوحشها، ولا تتفق مصالحها مع الديمقراطية أو أنظمة الضمان الاجتماعي والصحي ضد الفقر والمرض، ولكن ينحصر دورها فقط في الضغط على الحكومات من أجل رفع المعونات على الضمانات الاجتماعية والصحية والتعليمية، وخصخصة المرافق الحيوية وعدم تدخل الحكومة وأنظمة الحماية الحكومية والاجتماعية في اقتصاد السوق،..

ولا أجد تفسيراً لما يحدث في المنطقة من انفتاح إعلامي غير ملتزم إلا بسبب تخصيص إعلام الفضاء بهذا الشكل العشوائي الذي ستكون من نتائجه فرض ثقافة ليبرالية نفعية وسطحية، يتم تمريرها من خلال هذه الفوضى التي لا تحكمها القيم، ولكن المنفعة المادية المتحررة تماماً من الأخلاق الدينية والمبادئ الوطنية..

الأخ الكاتب الكنعان يرى ما يحدث في المجتمع هو مجرد حقائق مدنية، وليسمح لي الآخر العزيز أن أختلف معه، فعالم الدين الذي كان يعظ الناس طلباً للأجر والثواب تحول إلى ليبرالي وطالب للمنفعة المالية العالية من خلال قنوات إعلامية تخدم الغرض الليبرالي بمفهومه الإبستمولوجي الحديث، وليس بفهم جون لوك..

قال المدير العام لقناة (العربية)، عبدالرحمن الراشد في مقابلة له مع جريدة المدينة في 17 نوفمبر 2006: إن الشيخ سلمان العودة أكثر ليبرالية منه (وكم أنا في شوق لفهم ماهية الليبرالية الذي كان يقصدها الكاتب عبدالرحمن الراشد)..!

أخي الكاتب عالم الشريعة الذي دخل البنك من أجل أسلمة المعاملات المالية وافق أولاً أن يعمل نظير رواتب عالية جداً من أجل تكحيل إسلامي لقروض الربا، وعجبت من قولك أن ليس من مهمة عالم الشريعة أن يمنع الناس من الوقوع في فخ القروض البنكية، وهل كان تحريم الربا منحصراً فقط في حرمة بيع النقد بالنقد أم الأمر أكثر من ذلك، ويعني منع الظلم الذي ظهر جلياً في الفوائد العالية جداً على القروض المؤسلمة..

ألم تكن هذه التسهيلات التي تغض النظر عن مراقبة ارتفاع عوائد الفوائد إيذاناً بتمازج مبدأ الاقتصاد الحر في المرابحات الإسلامية..!

التزاماً بالمساحة الممنوحة لي لنشر مقالاتي الإسبوعية سأنهي هذه المداخلة بمقولة ليبرالية شهيرة (الليبرالية إذا أمكن اختصارها في كلمة واحدة، ستكون على النحو التالي: الملكية، أي الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج)، وهذا هو حسب رأيي مكمن الخطورة على المجتمع في ظل غياب المؤسسات المدنية والاجتماعية التي من المفترض أولاً أن تحكم هذا التوجه العام، وأن تعمل ثانياً من أجل حماية المواطنين من آثار الليبرالية في اتجاهها الأحادي المفترس..



لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 6871 ثم إلى الكود 82244

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد