Al Jazirah NewsPaper Friday  27/06/2008 G Issue 13056
الجمعة 23 جمادىالآخرة 1429   العدد  13056
أنا أحبها!... والمرء مع من أحب!!!
يوسف عبد الله العزاز

صدقوني لم يجبرني شيء على أن يخط قلمي هذه السطور إلا حبي المجنون بها.. فاشهدي يا جبال واسمعي يا أطيار: فوالله ما فارق مخيلتي صورتها أبداً.. ولن يفارقها حتى تفارق أنفاسي مجرى دمي!....

هل تلك المرأة الجميلة الرائعة بكل معنى يحمله كل حرف من هذه الكلمة...

هب أن صديقاً لك حملته على سيارتك في يوم من الأيام فصار يأكل ويشرب معك!! نعم سوف ترحب به في أول الأمر.. لكن ما أظنك بعد شهر أو شهرين أو ربما ثلاثة وهو على حاله معك!!! حتماً سيتغير الترحيب إلى مفاوضات بأن يأخذ كل واحد منكما طريقه!

إذن كيف تكون أنت مع من حملتك تسعة أشهر في بطنها وهي ضعيفة وأنت تشاركها الطعام والشراب وكأني أراها وهي تتوكأ على يديها قائمة أو قاعدة بتلك التنهدات القادمة من أقصى جوفها، فكأني بقوله سبحانه وتعالى:

{وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ}(1)

فهل هناك أعظم من وصية الخالق... وهل هناك أشرف من هذه الوصية لينالها والداك؟

والآن... وبعد أن ابيض شعرها وبح صوتها وأصبحت لا تقوم ولا تقعد إلا بمد يدها لك لتسعد هي بقربك لها...

ارجع قليلاً بشريط ذكرياتك للخلف.. فذلك الشريط حقاً عليه أن لا يُبقي إلا الذكريات الجميلة!

أتذكر يوم أن كانت تمسح على رأسك عند النوم...

بل ربما تتذكر عندما تدخل باكياً فتضمك قبل أن تسألك عن بكائك...

كم بللت دموعها الدافئة ملابسك عندما سرت الحمى في جسمك يوماً من الأيام...

صدقوني لو كتبت لكم كم.. وكم لنفد حبر قلمي حتى وإن صارت دموعي له حبراً...

ياالله ما أعظمك من أم وما أجملك من امرأة تستحقين أن تأخذي قدسية الأم بلا فخر... وهل جاءت الحقوق الثلاثة لك يا أمي من عبث؟

مسكين يا من أدرت ظهرك لأمك وأبيك وركضت في مساهمة رب خسارة فيها أقرب من ربح تحلم به.

مسكين يا من فاته شرف برهما فما ينفع البكاء بعد أن وسدا الثرى...

مسكين أنا ومسكين أنت إلا من وفق في نيل رضاهما...

عفواً! دعني أهمس في أذنك همسة!

هل ما زلت تملك أن تنظر لوالديك؟ إن كنت قد هززت رأسك بنعم، فاركض وقبِّل رأسيهما واطلب منهما العفو والصفح فلعل هذه الفرصة لا تتكرر لك! عجِّل قبل أن يفقداك أو تفقد أحدهما! فإنما هو دين فأحسن الوفاء حتى يحسن لك العطاء...

وإن كانت الإجابة بغير نعم! فما أصعب أن تبحث عن محبوبك فلا تجد إلا ذكرياته!

نعم، أعرف أنك كنت تتمنى على الأقل أن تبقى لك رائحة أمك... أو ربما صوت أبيك كي يؤنسك! إلا أنها سنة الله ولن تجد لسنة الله تحويلا...

أمي أستميحك عذراً فلم أوفك حقك، أي والله! فقد غرّقتنا دنيانا وشغلتنا أموالنا وأهلونا...

(قال: أحي والداك قال نعم، قال صلى الله عليه وسلم: ففيهما فجاهد)(2).. فأنعم به من جهاد...

(الزم رجليها فثم الجنة)(3).. وهل أجمل من أن توفي لها شيئاً من عطاياها لك!

(رغم أنف، ثم رغم أنف، ثم رغم أنف، من أدرك أبويه عند الكبر، أحدهما أو كلاهما فلم يدخل الجنة)(4)... أي شرف أن يدخلك أبواك الجنة!

رائحة أمي أجمل من عطورات سان لوران أو حتى جيفنشي! كيف لا تكون وهي من كان أخي صالح -أبا الشيهانة - رحمه الله رحمة واسعة - يتغنى بها ويطرب لها فقد كان يقول: هل كل امرأة مثل أمي تستحق أن تكون عظيمة؟ - انتهى كلامه رحمه الله -.

ليس المحروم من فقد أمه أو من فقدته أمه! بل المحروم من أدركها ولم يزدد شرفاً ببرها...

أي شعور يتغشاك عندما تسمعها تسأل عنك! بل أي شعور ينتابك عندما ترفع يديها فتدعو لك! مسكين يا من أعطى أمه ظهره وولى!

سيأتيك اليوم الذي تبكي فيه كالطفل التائه في زحمة الناس!!!

أعجبتني تلك المقولة التي تقول: يظل الرجل طفلاً حتى تموت أمه، فإذا ماتت شاخ فجأة.

كل شيء تحملته في هذه الدنيا إلا أن أرى صفاء تلك الدموع تنحدر من خديها.. يا الله كم تحس بضعف يستهويك عندما ترى يدها على خدها وقد ضاقت عليها الدنيا بما رحبت! كم أتمنى أن أشق نصفي لأقدم لها الآخر.. بالله عليكم هل تخيلتم معنى أن تكون لكم أم! إذاً فابكوا معي!!!

هما اثنان لا ثالث معهما! وكلاهما مسكين...

الأول من ضيَّع على نفسه وسام الشرف مع المرتبة الأولى في بر والديه...

وأما الثاني: فهو الباكي عليهما كل ما حانت ساعة ذكراهما ندماً على تفريطه إياهما!!!

أمي... لم أتمن يوماً أن أكون شاعراً إلا هذه اللحظة كي أضيف معلقة ثامنة لتلك المعلقات ومن نوع حب آخر...

أمي... سأظل أذكرك وأدعو لك أنتِ وأبي ما حييت، وإن نسيت فسأذكر أن لا أنساكم.

أمي.... أقول لك كما قال أخي صالح (أبا الشيهانة) - رحمه الله - في أحد مقالاته عنك: أنتِ أول وآخر امرأة أحبها....

قال: يا رسول الله! هل بقي عليَّ من بر أبوي شيء بعد موتهما أبرهما به؟ فقال له المصطفى صلى الله عليه وسلم: نعم، الصلاة عليهما - أي: الدعاء لهما، والترحم عليهما - والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما، وصلة الرحم التي لا تُوصل إلا بهما، وإكرام صديقهما)(5).

أيكم يحب والديه؟ بل أيكم يتمنى لقياهما؟ لنحسن وفاء الدين حتى نجمع بهما.. وحتى يسخر الله لك من يعمل ويدعو لك بعد أن تترك مكانك فيرزقك الله قرة عين لا تنقطع.

***

(1) سورة لقمان آية14.

(2) صحيح البخاري.

(3) رواه البيهقي وابن ماجة، وحسنه شيخنا الألباني في السلسلة الصحيحة من حديث معاوية بن جاهمة.

(4) رواه مسلم.

(5) جاء في حديث في سنده علي بن عبيد الساعدي لم يوثقه إلا ابن حبان وبقية رجال السند ثقات.



yoazzaz@yahoo.com

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد