بدأت الحركة الإصلاحية على يد الإمام محمد بن عبد الوهاب للدعوة إلى العودة إلى المنابع الصافية لهذا الدين الحنيف، والبعد عن كل ما يمكن أن يشوبه من تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين.. وقد سعت تلك الدعوة إلى نبذ الخرافات والبدع مما قد توارثته الأجيال كما سعت إلى إفراد الله بالعبادة والتعظيم، ومحاربة الأوهام والتعلق بغير الله إن خوفاً أو رجاءً وفق رؤية السلف الصالح ومنهج أهل الحديث.
وحين تمَّ التوحيد على يد الموحد - طيب الله ثراه- الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود أعلنها واضحة جلية أن (لا إله إلا الله محمد رسول الله).. هو شعار هذه الدولة كما هي في منهج الدعوة السلفية.. الأمر الذي يعني أن نشر هذا المنهج من أولى المهمات بوصفه المنهج الذي يُمثِّل الدولة والأساس الذي تبني عليه هويتها الوطنية.. وكان أمراً طبيعياً أن يتولى هذه المهمة تلاميذ المدرسة السلفية الذين أخذوا المنهج عن مشايخهم ثنياً للركب ولزوماً لحِلق الذكر فانتشروا في الآفاق يعلمون الناس مما علمهم الله.
ونظراً لضعف مستوى التعليم وغلبة الأمية في ذلك الوقت فقد كان تعليم الناس القرآن وأحكام الشريعة وسلامة المعتقد إضافة إلى علوم العربية كما استقر عند المتأخرين كانت هي مفردات التعليم في ذلك الوقت.. وقد كان التحول نحو المدنية الذي كانت تشهده البلاد آنذاك يقضي بتحويل تلك الحِلق وتلك الأربطة إلى مدارس نظامية تساعدها في إتمام عملها وتمكنها من مواصلة تطورها بالاستفادة من تجارب الآخرين فكانت تلك هي جامعة الإمام.. لقد كان لجامعة الإمام الدور الفاعل في تأسيس الهوية الوطنية ونشر الوعي بها من خلال نشر المنهج السلفي حتى صارت هذه البلاد على قلب رجل واحد ولاءً لله ورسوله ثم حباً لهذا الوطن والمخلصين من أبنائه، وانصهرت في قالب واحد هو المملكة العربية السعودية.
وبعد أن فتح الله على هذا البلاد من فضله، وتقدم أبناؤها بوحي وتشجيع من المسئولين توسعت هذه البلاد بالتعليم بأنواعه المختلفة ونالوا الدرجات العالية من الجامعات العالمية رجالاً ونساءً، وأصبحت البلاد التي تنتشر فيها الأمية انتشاراً كبيراً تمتلئ بمئات المدارس والمعاهد والجامعات ولم يعد أبناء ذلك الوطن حين التأسيس بفضل الله هم أبناء اليوم ولا عادت تلك الظروف هي التي يعيشونها اليوم فقد صحبوا مع ما ثقفوه من مخرجات المرحلة الأولى الثقة بالله ثم بالنفس والقدرة على معالجة أشد المسائل العلمية والفكرية كما ثقفوا من خلال تعاملهم مع الآخرين المختلفين كيف يحافظون على بلادهم ووطنهم كما يحافظون على أنفسهم.. إن أولئك الذين قد كانت نواتهم إتقان علوم الشريعة والمعتقد الصحيح هم اليوم وقد أصبحوا أساتذة ومثقفين وعلماء وأصبحوا يزرعون تلك القيم وخلاصة تجاربهم في نفوس أبنائهم قبل المدرسة أو في أثنائها. وبناء على هذا التحول أصبحت حاجات أبناء هذا البلد غير حاجاته أمس.. وصار ما يمكن أن يأخذ وقتاً طويلاً في تعليمه في مرحلة من المراحل ليس هو ما يحتاج الوقت والجهد عينهما، بل إن ما كان يدرس في تلك المراحل ويعد من ثقفه عالماً كبيراً أصبح مع توالي الأجيال العلمية أمراً من البداهة لا يعذر أحد بجهله ولم تعد تلك العلوم والمعارف التي تعقد لها اللقاءات وتفتح لأجلها القاعات خافية على كل أحد كما كانت من قبل، لقد تحولت إلى مكونات داخل هذا الإنسان الذي يعيشها يطمح لأن يحقق شيئاً أكبر منها. هذه المكونات قد تبدلت وانصهرت مع كل ما ثقفوه من علم وحذقوه من تجربة لتكون إنساناً مختلفاً فيه من الأول إيمانه بربه وإخلاصه لوطنه، وصبره وتطلعه إضافة إلى ما أدركته الأجيال السابقة من خبرة وعلم ومعرفة.. هذا التطور في تكوين ابن الوطن انعكس على مفهوم الهوية الوطنية التي لم تعد مقتصرة على معرفة مبادئ العقيدة الصحيحة وتطبيقاتها سلوكاً واعتقاداً.. وإنما ضمت إليه التطور الذي أصابته هذه البلاد وأبناؤها بفضل الله ثم القيادة الحكيمة وما تحمله هذه البلاد بأنحائها المختلفة من تراث متنوع يؤكد التجانس ويثري تركيب الهوية الوطنية بوصفها جماع عدد من المكونات.. المورثات الاجتماعية والفكرية لا تتعارض مع الأساس الذي كانت جامعة الإمام في عهد التأسيس أداة للتأكيد عليه ونشره، ولكنها تختلف.. هذه المكونات كما حددت أساس الهوية في المرحلة الأولى من بناء الوطن نضجت في المراحل التي تلتها، وعندما نصل إلى هذه النتيجة نصل إلى عدد من المسائل:
1- إن الهوية الوطنية قد أصبحت متشعبة وكثيفة ومختلفة الجوانب تغطي حاجات الوطن وملامحه المختلفة.
2- إنها بهذا المفهوم لا يمكن أن تحصر كما كان الأمر في البدء في مسئولية جهة معينة بل لا يمكن أن تنهض بها مؤسسة واحدة مهما تكن طاقتها الاستيعابية وإنما هي مسئولية الجميع.. جميع أبناء الوطن ومؤسساته وهي إحدى البديهيات التي ينبغي أن تكون جزءاً من متطلبات المواطنة الصالحة يحميها النظام.
3- إن بقاء مؤسسة على مرحلة معينة كانت ذات وظيفة محددة في مرحلة معينة يخالف فطرة الله التي فطر الناس عليها القائمة على قانون التبدل والتطور (والله خلقكم أطواراً)، بل إن هذا ليحوِّل المؤسسة من أداة للتعليم إلى مؤسسة للتكرار والاجترار تسعى للوقوف على مرحلة بعينها، الأمر الذي يحوِّلها من مؤسسة تعليمية إلى مؤسسة سياسية.. وحين تفعل ذلك بسلطة القانون فإنها ستتبدل من أداة للبناء ونشر الوعي إلى أداة للقمع تحارب الاتجاهات الباعثة على التحول والتغيُّر، ذلك لأن البقاء على مرحلة واحدة والمحافظة عليه لا يتم إلا بالقضاء على بوادر الدعوات الظاهرة إلى المراحل الأخرى.
إن جامعة الإمام التي ساهمت في نشر العلم وحملت منذ البدء مسئولية تأسيس الهوية الوطنية ونشر الوعي بها والمحافظة عليها لهي مؤهلة اليوم أن تقوم بالدور نفسه بعد تغيُّر المرحلة وتبدُّل متطلباتها وذك بمواكبة الجديد وتحديث نظمها التعليمية وتطوير مناهجها لتحتل مكان الريادة التي كانت لها من قبل، وهي أحق بها وأهلها، فتقوم بدورها الفاعل في صياغة مفهوم الهوية الوطنية وتعزيزه بعد التطور الذي أصاب إنسان هذه الأرض.. والجامعة من خلال وعي مديرها معالي الأستاذ الدكتور سليمان بن عبد الله أبا الخيل، ابن الوطن البار، بضرورة الجمع بين الأصالة والمعاصرة في تكوينها وسيرها: الأصالة في أساس إنشائها والمعاصرة في استجابتها لمتغيرات المرحلة، تكشف عن تطور ملحوظ في مفهوم الجامعة وموقعها من المجتمع ومسئوليتها، يكشف عن قدرة كبيرة على القيام بهذا الدور الفاعل من خلال الاستجابة لمتطلبات المرحلة وشرط الوجود.. وقد خطت الجامعة في هذا خطوات كبيرة تتمثَّل أبرزها باحتضانها كرسي صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبدالعزيز وزير الداخلية للوحدة الوطنية بوصفه نقلة نوعية في التطور الحضاري والتحول في وظيفة المؤسسة التعليمية من مجال التدريس وسد حاجات سوق العمل إلى المشاركة الفاعلة في قضايا المجتمع وتشكيل الوطن كما يكشف عن الوعي بأهمية دور العلم ومؤسسات البحث العلمي في تقديم حلول للمشكلات الاجتماعية والسياسية على أساس علمي موضوعي بعيداً عن الأهواء والتخرصات أو نقل التجارب البتراء.