ما من شك أن النسق الديني ومؤسساته في بلدنا يشغل حيزاً مهماً في وجدان وضمير المواطن السعودي على مساحة التاريخ كلها.
وأصحاب الدعوة، ومنهم أئمة المساجد بطبيعة الحال، يؤدون دوراً متميزاً في توعية المواطنين بأمور دينهم ودنياهم، وهم يمثلون كياناً دينياً قوياً ومؤثراً.
والمؤسسة الدينية مندمجة في نسيج المجتمع ومتغلغلة في كيان ضمير الإنسان، يستقوي بها ويستشعر في ظلها الأمن والأمان، ويضطلع المسجد فيها بدور مهم في التنشئة الدينية ودور مماثل في التنشئة الاجتماعية، فضلاً عن تشكيل وعي الإنسان بواقعه الإيكولوجي، وعلاقات التواصل السسيولوجي.
هكذا تكون المؤسسة جزءاً متكاملاً مع مؤسسات المجتمع الاجتماعية بل والأمنية كذلك؛ حيث يوجَّه أبناء المجتمع للحفاظ على استقرار الوطن وحمايته من المشروعات الإجرامية والفكر المنحرف والقيم اللامعيارية، والاستسلام أمام تحديات الواقع في العالم المعاصر (المعَوْلم).
ونظراً إلى اهتمام دول هذا العالم المعاصر بما يدور في المحيط الإسلامي من مخططات تنموية ونهضة تكنولوجية ورقي ثقافي وأمن فكري واجتماعي يعلق عليه المستشرق (باكسيم رودنسون) في كتاب عن العلاقة بين الإسلام والرأسمالية والانفتاح الحر فيقول: إن من يدعي أن ثمة علاقة سلبية متعارضة بين الإسلام والحرية مجرد واهم؛ حيث تتأكد العلاقة الموجبة من خلال ظاهرة حية في معظم بلدان العالم العربي يطلق عليها (إسلام العصر الحديث). ويؤكد هذا القبول الباحث الاجتماعي (باترك هايتي) الذي رصد ظاهرة (الدعاة الجدد) الذين استقطبتهم المحطات الفضائية الناطقة بالعربية وفي المحطات الأمريكية التي تقدم نموذجاً إسلامياً مستحدثاً في برامجها الدينية.
وهؤلاء الدعاة حرصوا على الربط بين الممارسات الدينية والنجاح في الحياة؛ فقدموا شكلاً مختلفاً للداعية الإسلامي أكثر بساطة ووضوحاً وقُرباً من الناس ومشكلاتهم؛ فهو يقدم فكراً يناسب ظروف ما يجري في الواقع المعاصر، قانعاً بما يطرحه من قضايا دينية، وراضياً عن ذلك الأسلوب الذي يقدم به الفكر.
وإزاء ذلك ظهر تياران: تيار محافظ جداً، وآخر عالق بالراديكالية في الوقت الذي ترصد فيه ظاهرة شباب (النت) والإدمان عليه، وظاهرة تكنولوجيا الاتصالات والمعلوماتية، وهدير الثقافات المتباينة والصراع الانتمائي مع الوضع في الاعتبار أننا لا نعيش في عزلة عن العالم الذي يموج تحت نظام عالمي جديد تسانده بعض قوى الداخل والخارج، ويؤثر هذا النظام الذي يفرض نفسه في سياسات أنساق البناء الاجتماعي العام ويعرض إمكاناً لفرضية يدعى أنها وصفة لعلاج أزمات الداخل ومشكلات الحياة مما يلزم الداعية. الإمام المجد عليه أن يستخدم أساليب مختلفة للخطاب الديني؛ حيث يستطيع التعامل مع مشكلات الواقع بشكل جيد، وينحاز لهويته؛ فهو يحمل رسالة دينية ووطنية؛ فعليه أن يدعو إلى الاستقامة والصلاح، كما عليه أن يحشد الجهود للعمل على خيرَي الدنيا والآخرة.. وأن يقدم رؤية واضحة لكيفية النهوض بمجتمعنا وكيفية مناهضة سقم وخطر الفكر السلبي الوافد حاملاً لواء العولمة الثقافية؛ فهي تحمل وجهين: أحدهما سلبي، وهذا ما نرفضه، والآخر إيجابي نتعامل معه بوعي مدرك للصالح فيه.
وليس من المعقول أن يظل الداعية الإمام يدور في خطابه الديني حول قضايا ثابتة - وإن اختلفت منطلقاتها - مثلاً تذكير الناس بالجنة وطبقاتها والنار مثوى الكافرين، وعذاب القبر، وهول السؤال، والتعدد والطلاق وأوجه الرعاية للمسن واليتيم واللقيط ونهر الطفل وضربه ومعاملة الحيوان وقضايا مثيلة غيرها.
والرأي لدينا أنه قد حان الوقت لأن يسلك الداعية الإمام طريق التجديد الأسلوبي والمفاهيمي، متسلحاً بوعيه الديني، ومطلعاً على يجري على الساحة السياسية والاجتماعية والثقافية في الداخل والخارج، وملماً بمعارف وآراء وطرق ووسائل التربية الحديثة واستراتيجياتها، وهذا لأن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم عامة، ودينه عام يجب أن يطبق؛ حيث يلائم العصور المتتالية والأمكنة المتباينة، وأن يخص الخطاب الديني إنضاج الوعي العلمي الموضوعي بكثير من الاهتمام؛ من منطلق أن الإسلام عقيدة وديانة وتاريخ وثقافة وقيم وأداء ومراقبة وإرشاد.. وأن أنماط السلوك تبنى على الاعتقاد الديني وعلى تفسيرات دينية وتأويلات مذهبية وفقهية ومنهجية لصيانة حقوق الإنسان وحفظ كرامته.
إن ضغوط الواقع تفرض الحاجة لداعية - إمام يجيد مفردات التعبير، واللياقة في لغة الخطاب الديني، وهذا يتطلب تدريب الدعاة - الأئمة على الموضوعية والعقلانية والمنطقية، والفهم العميق لقضايا الوطن، ومشكلات وظواهر اللاسواء المصاحبة للتغير والحراك الاجتماعي، والقوى والعوامل الثقافية التي تؤثر إيجاباً أو سلباً في مسيرة المجتمع النهضوية، وأن يتزودوا بالثراء الفكري، والتفاعل مع الناس وحاجاتهم الدينية والنفسية والاجتماعية، وأن يأخذوا بأيدي الشباب المتلهف على مستقبل واعد، ودعم الأمل في بناء المجتمع الناهض على أسس التنمية المستدامة، والترقي به ليدخل مضمار التقدم في ساحة جديدة من تاريخ التطور والازدهار في شتى مجالات العلم والثقافة وشؤون الاقتصاد والدوائر الاجتماعية.
إنّ سبيل التنوع في الخطاب الديني تتضمن إعمال العقل واكتساب المهارة المعرفية واكتساب القدرة التوجيهية وفنون الإرشاد، وإمكانات الاطلاع على كل ما هو جديد في مجال عمله؛ ليتمكن من جذب أذهان مستمعيه.
ونتساءل: هل بالإمكان أن نغض الطرف عما يجري حولنا من أحداث ومواقف ومخترعات وابتكارات؟ وإذا لم يكن ذلك كذلك فهل المسجد الجامع يمكن أن يكون جامعاً لكل الأنشطة والبرامج التي تهم المسلمين؟ فكيف يتحقق ذلك؟.