يخطئ من يظن أن زمن التحولات قد انتهى بعد زوال المعسكر الشرقي واستقرار السيطرة للقطب الأوحد في عالم ما بعد سقوط جدار برلين، بل النقيض لهذه الرؤية هو ما حدث، فقد أدى سقوط القطب الشيوعي إلى تحرر الشعوب...
.. من سلطة سيطرة ودكتاتورية المركز على قراراتهم السياسية ومصالحهم الإقليمية والوطنية، وإلى بروز قوى متعددة ومختلفة التوجه ضد المعسكر الغربي وتطالب بضرورة الاحتكام إلى الديموقراطية، وما حدث في أمريكا اللاتينية خير دليل على ذلك..
حيث لم ترتمِ دول الجنوب الأمريكي في أحضان الغرب الرأسمالي بعد سقوط المعسكر الشيوعي، فقد بات اليسار المتمثل في قوى المعارضة للرأسمالية يسيطر على الجزء الأكبر من القارة اللاتينية، حين فرض توازن الصراع بين القوى المحلية إلى إرساء عملية ديمقراطية نزيهة وذلك كحل أمثل من خطر حرب أهلية لا تبقي ولا تذر، وهو ما قاد إلى اختيار زعماء وحكومات تميل أكثر إلى توجه يخالف ما تريد فرضه الولايات المتحدة على العالم..
بدأت نقلة أمريكا اللاتينية اليسارية منذ وصول الرئيس الفنزويلي هوغو شافيز إلى الحكم قبل عشر سنوات، من ثم أكملت مع رؤساء جدد في البرازيل والأرجنتين وأوروغواي وتشيلي وبوليفيا والإكوادور وغواتيمالا ونيكاراغوا.
الديموقراطية في ظل هذه المتغيرات على أرض الواقع تغدو ضرورة وليست خياراً تملك القوى المركزية قرار إطلاقها أو تغيير نتائجها أو إلغائها إذا ما رأت أن هذه العملية السلمية في دائرة الصراع تعمل ضد مصالحها، وهذا هو منطق الديموقراطية في العالم العربي في هذا العصر.. أي أن الواقع هو الذي يطلب حضور الديموقراطية النزيهة لحل أزمة اختناق يمر فيها المجتمع.. وليست مجرد لوحة جدارية صامتة وغير مؤثرة على أساليب إدارة المصالح.
اليسار قد يعني في الألفية الثالثة معارضة السلطة المركزية وسلطة رأس المال، وتلك المبررات التي تنطلق منها هذه الحركات السياسية من أجل إعادة توزيع الثروة أو المصالح إن صح التعبير.. كان تأثيره امتداداً لمرحلة لاهوت التحرير أو تحرير اللاهوت المسيحي من السلطة التاريخية أو تحييد المقدس في مرحلة الصراع معها..
الجوع هو سبب فشل النظام الرأسمالي في الدول خارج المنظومة الغربية، فالاستئثار بالثروة والانفراد بالقرار يؤدي إلى خلق أيدلوجيات مضادة وخروج تبريرات الشروع في العمل السياسي من أجل التغيير، فأيدولوجيا اليسار راجت في أمريكا الجنوبية من أجل مقاومة احتكار المال والسياسة ومحاربة الجوع الذي جاء به النظام الرأسمالي وللدفاع عن حقوقهم في المشاركة السياسية..
ما يحدث على أرض لبنان من عراك سياسي حاد هو نتيجة لتغيير موازين القوى بعد الحرب الأهلية، فالفئات التي كانت مهمشة في عصر ما قبل الحرب الأهلية صارت أقوى منذ قبل، وغدت تبحث عن موقع جديد لها على أرض الواقع..
لا تشكل الأيدولوجيا المجردة العنصر الأساسي في الصراع اللبناني، فمصالح الفئات التي كانت شبه منبوذة في حصص توزيع الثروة تم إدراجها ضمن خطاب المقاومة ضد المشروع الاستعماري في المنطقة.. والمقصود بقوى الاستعمار تلك الفئات المحدودة التي تسيطر على معظم المصالح الاقتصادية وتحظى بالدعم من قوى الرأسمالية الغربية في العالم..، والخطأ الذي تقع فيه دائماً قوى المركز الغربي أنها تفضل التعامل مع فئة محدودة مسيطرة على القرار ورأس المال من أن تتعامل مع قوى متعددة تحكمها الديموقراطية النزيهة..
يتضح من مطالب المعارضة اللبنانية الإصرار على الحصول على جزء مؤثر من مجلس السلطة، وهو ما يسمح لها المشاركة في صنع القرار والحصول على بعض من مصالحها، وما حدث من تنامٍ ملحوظ لقوة حزب الله بعد إنجازه التاريخي في تحرير الجنوب أعطاهم القدرة للوقوف صفاً واحداً من أجل فئتهم التي استمدت وعيها السياسي من أيدولوجيا الثروة الإسلامية في إيران..أي أن الجنوب اللبناني أو الشيعة اللبنانيين هم الذين بحثوا عن الذراع الإيرانية من أجل تحقيق أهدافهم على أرض الواقع، وذلك من أجل فرض سياسة التوازن مع القوى الأخرى التي تستمد قواها السياسية والرأسمالية من أطراف أخرى.ما يحدث في العراق هو أكثر صور الصراع وحشية، فالقطب الأمريكي قرر أن يخوض الصراع مباشرة من أجل تحقيق مصالحه في مجتمع تم طمس وعيه السياسي لثلاثة عقود، وكانت النتيجة حروب تدميرية بين فئات مختلفة التوجه والمرجعية وفاقدة لأبجديات الوعي السياسي الذي انتصر مؤخراً في ساحة الصراع اللبناني الأخير.. وسيكون الوصول إلى حالة توازن القوى أو ضرورة تحكيم الديموقراطية بعيد المنال بسبب تعدد اتجاهات الصراع ودخول القطب الأمريكي ساحة الاقتتال.
الوعي السياسي نتيجة إيجابية لثقافة الصراع، تظهر أدنى درجاته في الاستبداد والعصبية والاحتقار والنظرة الدونية المتبادلة بين فئات المجتمع والميل نحو العنف لحل الاختلافات في المصالح، بينما يبدو مثالياً وواقعياً في نفس الوقت عندما يصل أطراف النزاع إلى ضرورة الاحتكام إلى طاولة الحوار والاستعداد التام للتنازل..
أحياناً تصل الشعوب إلى نتيجة إيجابية من خلال فرض معادلة توازن القوى، وضرورة الاحتكام إلى الديمقراطية النزيهة كواقع من أجل أن يعم السلام ولئلا تتحول المنطقة إلى ميدان للحروب والفوضى والانقلابات والتي بالتأكيد لن تجلب سوى الدمار والفساد في الأرض.