لقد سقط المفكرون الذين يعالجون قضية الإرهاب في فخ المفاهيم الخاطئة بالربط بين التطرف والإرهاب، فالتطرف هو النأي عن الوسطية إلى أقصى اليمين أو إلى أقصى اليسار، والمتطرفون هم الذين يرفضون الحوار مع الآخر.
والتطرف قديم قدم الأديان والمعتقدات، والأفكار، والمتطرفون هم المتشددون في أفكارهم،
فهم يشكلون ضرورة من ضرورات الحوار، فالتطرف قد يكون ظاهرة صحية يتطلب الأمر وجودها لإثراء الحوار، أما الإرهاب فهو عبارة عن تدمير الممتلكات، وإزهاق الأرواح لتحقيق غرض سياسي.
فالإرهابيون يتخذون من الفكر المتطرف أداة لتبرير جرائمهم، مما وسع دائرة الحرب على الإرهاب، لأنه تسبب في جذب بعض المتشددين والمتطرفين إلى التعاطف مع الإرهابيين، وفي الولايات المتحدة الأمريكية، أكثر من مائتي منظمة إرهابية منها من استخدم التطرف، ومنها من لم يستخدم ذلك، فالبورتريكيون هم إرهابيون، لكنهم لا يحملون أفكاراً متطرفة، وكذلك الكوبيون الإرهابيون، ويدخل في حكمهم الذين عادوا من حرب فيتنام، لكن (المكارثيين) كانوا متطرفين ضد الشيوعية، لكنهم لم يكونوا إرهابيين، أما جماعة (جون بيرج سوسايتي)، فإنهم لم يكونوا من الإرهابيين، لكنهم بعدما هوجموا انضم بقاياهم إلى اليمين المتطرف الإرهابي، وهم الذين فجروا مبنى أوكلاهوما، واليوم يحتفظون بميليشيات في مونتانا، ويجتذبون إليهم المتطرفين المضطهدين.
صحيح أن المتطرفين في كل الأديان والمعتقدات يضرون بمصالح البشرية، لأنهم يجعلون العلاقة بين الأديان والأمم علاقات توتر ومشاحنات، وصراع وعنف، بينما أرادها الله أن تكون علاقات تعارف وتراحم وسلام، وهو ما قاله صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبدالعزيز لطلاب جامعة هارفارد الذين تشرفوا بزيارته والحوار معه.
إن مواجهة الفكر المتطرف تتطلب الحوار للوصول إلى كلمة سواء، وإلى أرضية مشتركة فإذا حوربوا بالسلاح تحولوا إلى معسكر الإرهاب، فالتطرف إلى أقصى اليمين يقابله تطرف في أقصى اليسار، فإذا سقط أحدهما، فسوف يكون على حساب التطرف الآخر، ويسود الساحة فكر متطرف واحد.
فالعالم الإسلامي بعد أن توسد التراث قروناً طويلة، أفاق على حضارة طاغية، كان من نتائجها أن أصيبت الأمة العربية بالصعقة الحضارية، فنجم عنها انفصام في المجتمع، فريق تطرف في الفكر الديني، فآثر غلق المصارع أمام الحضارة الغربية حتى لا يصاب بالتلوث الفكري، فحرم مما لدى الغرب من منافع وتطور وتقدم، وقسم آخر تطرف علمانياً، ودعا إلى فصل الدين عن الدولة، وأن يبقى الدين خاصاً بحرية الفرد، وأن الثقافة والحضارة لا تؤخذ إلا من الغرب المتقدم، وطالب بالسير على خطى الغرب.
واليوم وبعد أن أخذت القاعدة بالتطرف الديني كوسيلة لتبرير جرائمها، انتهز التطرف العلماني الفرصة، وشن حرباً لا هوادة فيها على التطرف الديني ليعزز مواقعه، ووجد دعماً وتأييداً من الغرب الذي هاجم الدين الإسلامي باسم التطرف والإرهاب، كما هاجم البرامج التعليمية، وبالغ حتى تعرض لذات النبي -صلى الله عليه وسلم- والقرآن، فإذا أصبح التطرف العلماني هو اللاعب الوحيد في الميدان، انسلخت الحضارة الإسلامية من قيمها، وتحولت إلى الاستهلاك الفكري والحضاري من الغرب عندها تسقط الأمة العربية في التبعية الحضارية، وهو ما تسعى إليه العولمة الحديثة، وضاعت بذلك معالم الحضارة الإسلامية، إننا نعيش تنافساً شرساً بين الحضارة الحديثة القائمة على الديمقراطية والتعددية وحقوق الإنسان، وبين المسلمين الذين يطبعون قواعد العدالة ليس بالديمقراطية العربية، بل بالشورى والمجالس المفتوحة والالتزام بالثوابت الشرعية.
ولأن المتطرف هو من يرفض الحوار مع الطرف الآخر، فأسوق مثلاً على ذلك، فالفنان ديف شابل الكوميدياني الأمريكي الشهير بعد أن أعلن إسلامه قابله أحد المحاورين في القنوات الفضائية، وسأله لماذا أسلمت؟ فقال لأني قرأت القرآن واقتنعت، فرد عليه قائلاً: كيف تقتنع بالقرآن وهو كتاب إرهابي؟ فرد عليه ديف قائلاً: هل قرأت القرآن أنت؟ قال لا، قال: فكيف حكمت عليه؟ قال: هم يقولون ذلك، فرد عليه ديف: ألم يكن من الأولى بك أن تقرأ القرآن قبل أن تصدر قرراتك، كيف تكون مؤتمناً على عقول المشاهدين، وأنت تحكم بما لا تعرف؟
إن هذه القصة تدل على كيفية استغلال الحرب على الإرهاب لضرب الإسلام؟ وكيف أن هذه الحرب فتحت باباً واسعاً للمتطرفين العلمانيين، كي يهزموا التطرف الديني ليصبح التطرف العلماني هو المتنفذ في الدول العربية والإسلامية، إن الحوار بين التطرف الديني والتطرف العلماني هو الذي يقودنا إلى الوسطية، هذه الوسطية هي التي تحقق التقدم والأمن والسلام.
لقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يضع الضوابط ضد الغلو، فكان لا يحاربهم، بل يحذر من هذا التطرف، فكان يقول: هلك المتنطعون، ومع هذا لم يقتل في المسلمين تشددهم وغيرتهم على الدين، بل كان يكفكفهم إذا تجاوزوا الحد، ويترك الفرصة أمامهم للحوار مع غيرهم، فعندما جاء أبو سفيان للقاء النبي -صلى الله عليه وسلم- طمعاً في تجديد العقد التي تم في صلح الحديبية، بعد أن انتهكته قريش، وكان معه العباس وأبوبكر اللذان كانا يطمعان في إسلامه، وبعد لقائه بالنبي -صلى الله عليه وسلم- قابله المتشددون أمثال بلال وسلمان الفارسي وزيد بن حارثة وغيرهم، فوضعوا أيديهم على سيوفهم، وقالوا: يا سيوف الله لم ترتو بعد من دماء الكفار والمجرمين، وأسمعوه كلاماً قاسياً، عاد أبوبكر للنبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: يا رسول الله لقد أسمعوا أبا سفيان كلاماً قاسياً وهو سيد قريش، فقال عليه الصلاة والسلام: لعلك يا أبابكر قد أغضبتهم؟ فو الله إن أغضبتهم فقد أغضبت الله.
إن السبب في انتصار المملكة العربية السعودية على الإرهاب، ليس بالإجراءات الأمنية الرائعة وحدها، بل أيضاً بالحوار الوطني الذي أسقط التبريرات المتطرفة للجرائم التي يرتكبها الإرهابيون، ووحد الجبهة الوطنية الداخلية التي استطاعت أن تحرم الإرهابيين من الملاذ الفكري الآمن لهم بين أفراد الشعب السعودي، وذلك من خلال الحوار الوطني بصفة عامة، والمناصحة بصفة خاصة.
ولو نظرنا إلى فلسفة المناصحة والحوار مع الذين تورطوا في الفكر الإرهابي، لتبين لنا كيف تراجع هؤلاء وتحول بعضهم إلى أداة للبناء والإصلاح، بعد أن كانوا معول هدم للإسلام ولمكتسبات الأمة.
إن علينا الحذر من ربط الإرهاب بالتطرف، وفي المقابل لابد أن نتأكد بأن الإرهاب استخدم التطرف كوسيلة لكسب المؤيدين والمتعاطفين والأتباع، ولابد أن نفوت عليه الفرصة.
إن المتطرفين في الدين يحملون الغيرة على الإسلام، لكنها بأسلوب التشدد، أما الإرهابيون فلديهم أطماع سياسية، وأهداف إجرامية.
والله الموفق
رئيس مركز الشرق الأوسط للدراسات الاستراتيجية
eshki@doctor.com