في كل مرّةٍ أغسل فنجان قهوتي، وعندما تنبعث رائحة البنِّ المتراكم في قعر الفنجان، تأتي صورتكِ في عينيّ، يملأ طيفكِ المكان في داخلي ويمر خفيفاً بجواري، إنها أنتِ: عبقٌ مَرَّ في منتصف الطريق، وأنا ألهث.. فخطفني!
كانت أغصان الزنبق على ضفاف النهر باسقةً تؤشر لي من بعيد: أن أقبِل وانتزع الفرح.
عندما قدمتها لك وأنا أحكي لك قصة انفرادها واستقلاليتها متميزة عن باقي الزهور، كنتِ تنظرين إليَّ بزهو وعيناك تشعلان الصمت.
كان الجو مترعاً برائحة القهوة التي تعدها أمكِ في (مطبخ) أطلت نوافذه علينا بعين الرقيب، نثرتُ وريقات الياسمين فوق رأسك لترسليها بهزّة ضاحكة إلى الماء الرقراق في (بحرة) ذلك البيت الدمشقي: (انظري إليه يا أمي.. زهور الشام قد سلبت عقله).
لم تكن زهور الشام، لم يكن إلا ذاك الرَوح في عينيك، ذلك الانبعاث في لغة جسدكِ، ذلك الشذى في حضورك).
(يا أخي أنا سعودية.. والله سعودية!!) كان هذا هو احتجاجك على مدى سنوات طوال..
قصار، في كل مرة تتفتحين فيها بجانبي صباحاً.. حين أدفن أنفي في ثناياك وأشتمّ عبيرك بكل ما أملك من قوة: (دعيني أستنشقك أيها الزهرة الشامية قبل أن تأخذي حمّامكِ، قبل أن تبللك قطرات الندى وتتضمخين بعطر السماء)، (الحين أنت متى تقتنع أني سعودية وتنسى سالفة الزهرة الشامية؟! أبوي وأمي سعوديان ومولودان في الرياض، ما عليك من جدتي أهم شيء أبوي وأمي!!)، (إلا سورية ونص... ولو كتب القدر أن نجتمع مع أولاد لنا مستقبلاً فلن أناديك أمامهم إلا: يالسورية.. يا أحلى سورية... يا عمري أنتِ.. يا بعد الدنيا كلها).
كنت أحب العناد في هذه المسألة وأنا أبتسم بسخرية، أحببتُ منظر حاجبيك وهما ينعقدان من الانفعال، أثملني ياسمين الشام في أنفاسك، وسحرتني زنابق (بَرَدى) في أعطافك.. حتى عندما نكون في قلب الرياض وفي موسم العواصف والغبار.
فنجان القهوة كان هيكلنا الذي نجتمع فيه، عندما كنتِ تعدّينها لي.. أشربكِ فيها، وأذكر أنك قد قلتِ لي: (عندما تعدها لي فإني أتذوق روحك في كل رشفة)، وفي إحدى المرّات قمتُ بتقليد ملامح عبدالحليم مغنيّاً لكِ: (فنجان القهوة في عينيك.. يناديني نحو الأعمق...
إني أتنفس تحت الماااء.. إني أغرق أغرق أغرق) فانطلقتِ تعزفين ضحكتكِ دون أن تلحظي الكائنات -كل الكائنات- لحظتها وقد سكتت منصتة لكِ، أما أنا فقد كنت منتبهاً.. كنتُ واحداً منها).
شوف أنا أحب البّر واستأنس لما نطلع أنا وأنت ونشوي أو نتقهوا... لكن كيف تتحمل تجلس أسبوعاً هناك دون ما تأخذ حمّاماً؟!، (وش قصدك؟؟!! يعني أنا قروي عشان أهلي ما يشربون قهوة تركية؟!)، لأتلقى ردة فعلك: نظرات لثوانٍ معدودة حتى تميّزي المزح من الجد، ثم ضحكتك التي عشقتها حتى الثمالة وأنتِ تقاطعينها شاهقة: (مجنوون والله أنك مجنوون)، كنت أرتكب هذه المقالب الكلامية فيما ترتسم ابتسامة الانتصارعلى شفتيّ: لقد أضحكتكِ!
القدر الذي جمع بيننا ثم فرّقنا، كان السبب في تجاهلنا بل وتبلدنا تجاه كل ما يتعلق بالمستقبل وملامحه الضبابية التي أحببنا ألا نتأمل فيها -كنا نريد للزمن أن يتحول إلى ماضٍ وحاضر فقط- حتى لا نخرج من تيارات الفرح التي كانت تحلّق بنا إلى الأعلى... فنصطدم بصخرة الواقع ونقع محطمين، لم نكن نريد أن نفقد أجنحتنا، حتى أننا كنا نضرب بها ضربات متلاحقة بلا توقف ولا استرخاء، كنا نستخسر حتى النوم - (أتعلمين؟ لولا بحر اللذة الذي أسبح فيه عندما أفتح ناظري على تفتّحك في الصباح وحين أشم رائحة جسدك الأنثوية الشفيفة... لما نمت ولا تركتك تنامين أبداً) هكذا همست في أذنك ذات صباح بارد - محاولين اغتنام تلك اللحظات التي علِمنا أنها قصيرة مهما طالت.. حتى ولو امتدت لخمس سنوات، كنا نعلم أن كل واحد منا سيحكي الحكايا لأولاده ذات يوم بادئاً إياها بقوله: (كان يا ما كان في قديم الزمان... عندما كنتُ أستطيع التحليق بقوة الحب رغم أنف قانون الجاذبية)، ثم يواصل الثرثرة ناثراً فرح التفاصيل الجميلة داخل أرواحهم الصغيرة.
لسان حالنا كان يغني (حبيتك تانسيت النوم) و(من عز النوم بتسرئني) و(أنا عندي حنين ما بعرف لمين - ليلية بيخطفني من بين السهرانين).. وكنا نعرف لمن هذا الحنين، وأيضاً كرهنا أغاني أخرى، هل تذكرين كيف غازلت الدمعة أجفانك عندما كنا في أحد مطاعم جبل لبنان وغنّت الفرقة لوردة (الوداع مابئيتش أخاف في الدنيا دي غير ملوداع)؟! أما أنا فلن أنسى ذلك الحزن الذي كان يتلبسني عندما كنت أستمع لفيروز وهي تغني (سألوني الناس عنك يا حبيبي / كتبوا المكاتيب واخدها الهوا / بيعز علي اغني ياحبيبي / لأول مرة مابنكون سوا)، كان طيف القدر يتراءى لنا وقتها منذراً بالفراق الوشيك مهما طال اجتماعنا.. حتى لوامتد لخمس سنوات.
هل كان القدر هناك عندما كنتُ أغسل فنجاني وأدوات قهوتي التي شربتها وحيداً؟! هل جاء ليتأملني وأنا واقفٌ في ذاك (المطبخ) الذي لم يكن يطل إلا على الفراغ؟! أتُراه جال أرجاء بيتي ليرى الياسمينات الذابلة والفلّ الذاوي في الأحواض.. في كياني؟! أم تُراه انتبه لشريط الذكريات وهو يمر أمامي بسرعة تفوق سرعة إطلالتك وغيابك؟!
إنه ليس القدر، لقد كان طيفكِ.. يملأ المكان.. إنها أنتِ:عبقٌ مَرّ...
فهد الغريري