مَن استمع بعد ظهر أمس إلى الكلمة الملكية أو قرأها مكتوبة، فضلاً عن أولئك الذين جمعتهم المناسبة ليكونوا من بين الحضور في مجلس الشورى لحظة إلقائها فعاشوا مع الأجواء وتعاملوا مع الحدث، لا بد أن انطباعاً من الشعور بالرضا قد تولَّد لدى كل منهم، وأن أملاً باسماً في مستقبل مشرق لم تغب صورته من أذهانهم، بينما كان صوت عبدالله بن عبدالعزيز يدوي بثقة وعزيمة واطمئنان في مجلس الشورى، فجاءت كلمته السنوية غنية وبليغة وزاخرة بالمعاني وبما كان ينتظره المواطنون.
***
كانت الكلمة تتناغم مع أجواء العمل المنتج في بلادنا، وتخاطب الحس الوطني لدى كل منا، وتقول ما ينبغي أن يُقال في عالَم يكتنفه الغموض وتلفه التحديات بما لا وقت معه لإضاعة أي مجهود في غير ما يخدم الوطن والمواطن، وبما لا قبول - في ظل عالم غامض - بتصرف غير مدروس قد يعوق خطط وبرامج التنمية، أو يتعارض مع طموح ينبغي أن يحاكي البُعد التاريخي لقيام هذه الدولة بصفاتها ومواصفاتها وما تتميز به منفردة عن غيرها من الدول.
***
وكلمة الملك عبدالله بن عبدالعزيز بشموليتها وشفافيتها ووضوحها وصدقها وإن جاءت كما لو أنها قراءة صريحة وتوصيفاً واضحاً لما هو عليه حالنا اليوم، إلا أنها في جانب آخر كانت ترسم - بثقة كبيرة - ملامح العمل المستقبلي وخطط التنفيذ، ولا تكتفي بأن تلامس الأهداف المرسومة لها فحسب، وإنما كان تصميمها أن نذهب إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير، ضمن إصرار خادم الحرمين الشريفين على بلوغ الأهداف التي نسعى إليها في أيام العمل والعطاء وتقدير الأفكار النابضة بالخير والانتماء والوطنية.
***
ومَن يتأمل في مفردات الكلمة القيمة للملك عبدالله، ويتوقف عند معانيها، مع رغبة واستعداد للاقتراب من فكر خادم الحرمين الشريفين، لا بد أن انطباعاً إيجابياً مفرحاً قد رافقه أثناء تتبعه لما ورد في كلمة الملك، وأنه أمكنه استخلاص فحوى الرسالة التي تعمد خادم الحرمين الشريفين أن يوجهها إلى الأمة؛ ما لا يمكن لمثلي أن يقول عنها بأكثر مما قاله عبدالله بن عبدالعزيز نفسه من حرص واهتمام بمصالح المواطنين.
***
لم يتحدث الملك عن الإنجازات التي تحققت في عهده من سياسات وأنظمة وبرامج ومشاريع تصب في مصلحة الوطن والمواطن، وهي إنجازات كبيرة وكثيرة ومهمة لو كان زعيماً غيره لفعل، لكنه فضَّل أن يكون حديثه من القلب إلى القلب - كما قال - بعيداً عن لغة الأرقام والإنجازات، مخاطباً شعبه من خلال الزمان والمكان في لغة شاعرية جميلة لا علاقة لها بالكلمات التقليدية التي ربما توقعها البعض، فجاءت الكلمة مختلفة ومغايرة في المعنى وأسلوب الطرح ولغة الخطاب.
***
تحدَّث عبدالله بن عبدالعزيز عن الحرية المسؤولة، وحدَّد معالمها، والآلية المناسبة لصونها، وأنها حق لكل النفوس الطاهرة، وأن علينا أن نُسمع العالَم صوتنا، ونقول له هذه هي الحرية التي نستمدها من ديننا وقيمنا ومكارم أخلاقنا، مشيراً إلى أن الحرية تكون في التفكير وفي النقد الهادف المتزن، وهو بهذا كمن يصحح بعض المفاهيم المغلوطة في تعريفها لحرية الرأي.
***
وتحدث خادم الحرمين الشريفين عن الوطن الذي يريده أن يبقى شامخاً وعزيزاً ومتفوقاً في زمن لا مكان فيه للضعفاء والمترددين بوصفه تجربتنا التاريخية، والرؤية التي نسير في طريقها بتصميم وعزم بين دروب وعرة لا يمكن لها أن تعيق النفوس الكبيرة المتوكلة على الله، فأشار إلى المناكب التي تزاحمت خلف قائد وحدتها الملك عبدالعزيز، ليستخلص من ذلك أهمية أن نحيط هذا الوطن بأكرم تعابير الحب والوفاء، لتبلغ كلمة خادم الحرمين الشريفين أعلى درجات التواضع والأهمية، حين سارع عبدالله بن عبدالعزيز بانتقاد نفسه أكثر مما ينتقد غيره قائلاً: إنه ما تردد يوماً في توجيه النقد الصادق لنفسه إلى حد القسوة المرهقة خشية من الأمانة التي يحملها، وكله ثقة وأمل أن يكون مثل هذا النقد - كما يقول - قوة تسقط باطلاً وتعلي حقاً، وهو درس بليغ يجب أن يحاكيه ويقتفي أثره ويتعلم منه كل مسؤول صغرت مسؤوليته أو كبرت.
***
شكراً أبا متعب، فلقد كنت أمس كما عهدناك دائماً أباً ومواطناً، وقائداً هماماً، وصديقاً لصيقاً لكل الأفكار التي تخدم وطن الحب والشموخ والكبرياء، بما لا نزيد على ما قلته وتحدثت به إلى الأمة في يوم من أيام الشورى التي أسسها والدكم وأحاطها أبناؤه من بعده بالرعاية والاهتمام.