إن المنخرطين في سلوك مناهضة المجتمع هم هؤلاء الخارجين عن قيمه ومثله السائدة، وهم الذين حادوا عن خط السراء المعاييري وعن النظام القائم في عمومه، وهم الذين انسحبوا من المشاركة الفاعلة في تيار المجتمع، وذلك يرجع في الأساس لما يكنونه له من عراء ومن تحيز مقيت لأنفسهم.
ومن الطبيعي القول: إن هذا الانسحاب سلوك إرادي أي أنه لا يخضع للمرضية في الغالب حيث ارتضاه المتسحبون طوعاً لا جبراً، بمعنى أن عداءهم للمجتمع يأتي معبراً عن رغباتهم في الضرر به والإساءة إليه.
ولذا يتحتم مواجهتهم والتصدي لهم بغية التوقف عن الإضرار بالمجتمع وعدم تماديهم في الإساءة إليه.
وإزاء ذلك تتعدد نظريات المفسرين لهذا السلوك؛ فمنهم من يرى أن سلوك مناهضة المجتمع يكمن في كونه مرض وسقم يتعين تشخيصه والعمل على علاجه كما هو في نظرية الدفاع الاجتماعي، ومنهم من يرى ضرورة الوقوف على كل من العوامل المهيئة والمسببة لوقوع هذا السلوك اللامعياري والقائمة في المجتمع ذاته الذي دفع بهم عنوة لمناهضته وإيذائه واستعدائه كما هو وارد في نظرية علم الإجرام، ومنهم يرى أنه يعود وأنه يرجع إلى الخبرات الأولى في سني الطفل، كما وأنه يرجع لأساليب في التربية خاطئة في الأربع سنوات الباكرة في عمر الطفل كما هو واضح لدى أصحاب (الفرويدية) علم النفس التحليلي، أو أنه راجع للخلط والتشويش بين دائرتي السواء واللاسواء في السلوك واعتماده على الكف والإثابة كما هو وارد في (النظرية السلوكية)، أو هو راجع إلى استبدال المقبول باللامقبول كما وارد في (نظرية القيم).. وغيره من نظريات مفسره للسلوك.
والرأي لدينا أن هذه النظريات هي مجرد محاولات كشفية تفسيرية لإماطة اللثام عن العوامل والمسببات ذات الأثر في سلوك الفرد والمجتمع عن طريق كشف أسرار حياة ومعيشة الناس وتقسيمهم لفئات متدرجة بين طرفي السواء والانحراف السلوكي، وهي مسائل توفيقية تخضع لظروف الزمان والمكان ولذا فهي عرضة للصواب والخطأ أكثر من خضوعها للإثبات والنفي.
وأقرب إجابة على معطيات هذه النظريات هو (ربما) حيث لم يصل البحث العلمي حولها إلى نهاية فما زالت تثار حولها تساؤلات كثيرة.
وعلى أية حال فإن سلوك مناهضة المجتمع سلوك شاذ وهابط يحتاج لمراجعة الفروض ومعالجة النتائج في ضوء أن أساليب مناهضة المجتمع هو التقويم، والتوجيه وإعادة التربية والوضع في الاعتبار أن التربية المتوافقة تعتمد على التحلي بالحكمة والاعتدال والاتزان والمنطق العقلاني، ومنهجية الحق في الدفاع عن النفس والعقيدة والوطن.
ومن الأنماط اللامتوافقة التي مني بها مجتمعنا في الوقت الراهن الذي يتسم بالانفتاح وبالفضائيات والاختراق الثقافي والتناقل الأيدولوجي في الاقتصاد والانتشار الإعلامي (الجماهيري) وقيم العولمة (الغاية تبرر الوسيلة) وما تحض عليه من تطرف ليبرالي وهبوط قيمي وتحلل فكري (برجماتي) بقصد النخر في نسيج مجتمعنا المتماسك والتأثير في كيانه باستثارة غرائز الإنسان وتجنيده للسير في كتائب الانحرافات المستحدثة والتي منها اغتصاب حقوق الآخرين واستيلاء ممتلكاتهم والاعتداء عليهم وعلى ذويهم والتمثل بنماذج غيرية خربة والابتلاء بمسلكيات لا سوية منها على سبيل المثال أنماط مختلفة في سلوك السرقة فمنها سرقة بالتعزير والتحيل، وسرقة بالإصرار والترصد، وسرقة باستخدام العنف وسرقة بالطمر وسرقة بالخطف، وسرقة في العلن.. وغيرها من أنماط مستحدثة مثل خطف الحقائب من أيدي المارة وفي الأسواق وسرقة أجهزة المحمول وسرقة السيارات بأنواعها المختلفة (والطمر) على البيوت والمتاجر، والتغرير بالأطفال والبنات، والتخطيط مع الخدم والخادمات لتسهيل سرقة المخازن.
وعلى الرغم من ذلك فما زالت سرقات السرقة لدينا محدودة ليقظة رجال الأمن وتتبعهم للمنحرفين ووضع مخططات صيانة المجتمع والذود عنه فهم حماة الوطن بعد الله سبحانه وتعالى ويستحقون الثناء والتقدير.
وما يجب التنويه إليه - وما يتحتم خضوعه للدراسة العلمية هو أن سلوك السرقة لدى البعض مما لاحظناه - من خلال عملنا الميداني في هذا الصدد ولسنين طويلة وخاصة في مجال الأحداث والشباب - أنها لم تكن نتاجاً للعوز المادي لكنه تعبير ضمني عن هرم الحاجات البيولوجية ثم الاجتماعية ثم النفسية ثم الذات والتمحور حولها، إن ضمور وتشوه هرم الحاجات يؤدي إلى اضطرابات سلوكية - قد تدفع إلى السرقة - لكن الأعم أنه سلوك استحوازي.. تخيلي للبطولة في معترك قهر الآخرين والانتقام من المحيط غير المشبع للحاجات، والضغط من قبل رفاق السوء أمراً مؤكداً فضلاً عن تجاوزات الأهل والغض عن اتباع منهجية التقويم والتهذيب. لذا نهيب بمراكز البحوث التابعة لكل من مقام وزارة الداخلية والجامعات والشؤون الاجتماعية وغيرها من المراكز بإجراء دراسة كاملة ميدانية للوقوف على هذه الأسباب ووضع الحلول التي تساعد على علاج هذه الظاهرة.
وختاماً نقول إن مؤسسات الضبط الاجتماعي عليها دور كبير في تربية النشء وضبط قيمه واتجاهاته وممارساته السلوكية وعلينا جميعاً فهم أبنائنا ومراقبتهم والوعي بمسلكياتهم ورفاقهم وحسن تربيتهم، نعم إنها مسؤولية الجميع فكل راع مسؤول عن رعيته.