أ. د. عبدالكريم محمد الأسعد* |
من أطرف المبالغات التي كانت وما زالت سمة متأصلة وواسعة الانتشار عند شعوبنا قولنا: |
- عميد الأدب العربي - بدل الأديب طه حسين. |
- كوكب الشرق - بدل المطربة أم كلثوم. |
- السيدة الأولى - بدل زوجة أو حرم رئيس الدولة. |
- موسيقار الأجيال - بدل الملحن والمطرب محمد عبدالوهاب. |
- العندليب الأسمر - بدل المطرب عبدالحليم حافظ. |
- وحش الشاشة - بدل الممثل فريد شوقي. |
- سلطان الطرب - بدل المغني جورج وسّوف. |
- سفيرتنا إلى النجوم - بدل المطربة فيروز. |
- رئيس جمهورية الضحك الجميل - بدل الممثل الكوميدي عادل إمام. |
وهنا أسأل: ماذا لو لقبنا زعماء أوروبا وأمريكا الذين قادوا بلدانهم بنجاح وحققوا لها إنجازات تاريخية عظمى وقدموا لشعوبهم خدمات جلَّى مثل تحرير أوطانهم من الغزاة كما حدث مع الجنرال ديغول محرر فرنسا من الاحتلال النازي، والانتصار على العدو في الحرب كما فعل تشرشل رئيس وزراء بريطانيا وروزفلت الرئيس الأمريكي اللذان انتصرا على ألمانيا واليابان في الحرب العالمية الثانية؛ فقلنا مثلاً: |
- الرئيس الفرنسي (الضرورة) - بدل رئيس الجمهورية ديغول. |
- والزعيم البريطاني (الرمز) - بدل رئيس الوزراء تشرشل. |
- والقائد الأمريكي (الخالد) - بدل رئيس الجمهورية روزفلت؟! |
أظن أن الأمر سيعدّ عند الفرنسيين والإنجليز والأمريكيين نكتة سمجة تدعو إلى قهقهتهم، ومهزلة مقيتة تثير غثيانهم، وسيتذكر الفرنسيون أنهم أسقطوا ديغول القائد المنتصر في انتخابات رئاسة الجمهورية بعد انتهاء الحرب بقليل بسبب مشروع اقتصادي تبناه وعرضه عليهم فلم يوافقوا عليه، وأن أرملته قضت سنوات عمرها الأخيرة وماتت في مأوى العجزة بباريس، وسيقول الإنجليز إنهم أسقطوا تشرشل الرئيس المنتصر في الانتخابات الأولى التي جرت بعد الحرب مباشرة في بريطانيا على اعتبار أن من يصلح لقيادة الحرب لا يصلح عندهم لقيادة السلام، وسيعلن الأمريكان أن انتصارات روزفلت لم تجز له تجديد ترشيحه لرئاسة الولايات المتحدة لمدة أطول مما يسمح بها الدستور. |
لقد عدّ البلاغيون العرب القدامى (المبالغة) من المحسنات البديعية اللفظية والمعنوية المرغوبة في الأسلوب الأدبي، وعقدوا لها باباً خاصاً سمّوه بها، وجعلوا هذا الباب واحداً من أهم أبواب علم البديع. |
وجمع علماء الصرف الأوائل أوزاناً معينة في باب عَنْوَنوا له باب (صيغ المبالغة)، وحصروا (القياسية) منها في خمس: فَعُول وفعَّال ومِفْعال وفَعِيل وفَعِل؛ فقالوا مثلاً: أكول بدل آكل، ونكّاح أو منكاح بدل ناكح، وهلمّ جرّاً، هذا بالإضافة إلى أوزان أخرى (سماعية) كثيرة مبثوثة في المعاجم اللغوية. |
وأورد الصرفيون أيضاً جموع تكسير للقلة وحدها، وهي أربعة جمعها ابن مالك في ألفيته بقوله: |
أَفْعِلَة أَفْعُلُ ثم فِعْلَه |
ثَمَّتَ أَفْعال جموع قلّه |
وأمثلتها على التوالي: أشربة وأشهر وفتية وأرتال، وجموع تكسير للكثرة - أسمّيها الجموع الوسطى - لم يحصروا أوزانها لكثرتها وتنوّعها مثل كتب وبيوت ورجال، وجموع تكسير محددة الأوزان أطلقوها على العدد المفرط في الزيادة وسموها (صيغ منتهى الجموع)، وأطّروها في إطار الكلمات التي وقع بعد ألف تكسيرها حرفان نحو كتائب ومنابر أو ثلاثة حروف أوسطها ياء ساكنة مثل تماثيل وقناديل ومفاتيح. |
ولا توجد - فيما أعلم - في اللغات الأجنبية صيغ معينة بأوزان خاصة لا تعدوها مخصصة لصيغ المبالغة أو لجموع القلة أو لمنتهى الجموع؛ فهذه الصيغ المحددة موجودة في العربية، وهي - كما أرى - خصيصة سلبية مقصورة على لغتنا وحدها، وربما عدّها غيري أحد أسباب غنى اللغة العربية وثرائها وتفوقها على ما سواها من اللغات. |
وفي اعتقادي أنه لا داعي إلى تقسيم جموع التكسير في العربية إلى جموع قلة وجموع كثرة ومنتهى الجموع؛ لأنه لا تأثير إيجابياً فيه، ولا فائدة حقيقية منه. |
وأعتقد أيضاً أن المبالغة (المعتدلة) مقبولة، ولكنها حين تتجاوز الحدّ تصبح كذباً صارخاً يقلب الحقائق رأساً على عقب؛ لأنها عندئذ تساق بتكلف في غير المساق الطبيعي الصادق المقبول، وهي تصبح سائغة إذا كانت عفوية غير نابية ولا مقحمة كما هي حالها في الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وفي شطر كبير من شعر المديح أو الرثاء الذي يبالغ ناظمه في ذكر محاسن المرثيّ ومزايا الممدوح مبالغة مستملحة تحت وطأة المشاعر الجياشة المغرقة في الحزن أو الفرح؛ لذلك يمكنني القول بأن العديد من صيغ المبالغة المتكلفة والكاذبة المستعملة في كثير من النصوص الأدبية وكذلك صيغ منتهى الجموع لا تعدو أن تكون (ورماً) غير حميد لا يزيد الأسلوب الأدبي جمالاً بل ربما أزال عنه بعض رونقه. |
وأود أخيراً أن أروي طرفة مضحكة فحواها: أنني تناولت الطعام ذات مرة بإحدى المدن المغربية الكبيرة في مطعم بدا لي (من الخارج) أنه (مطعم درجة أولى)، عُلقت فوق بابه (يافطة) تحمل اسم (مطعم الشراهه)، وقد أدى ما في الاسم من إيحاءات مشجعة إلى أن أزدرد الوجبة بنهم شديد، ولم ألبث إلا مدة قصيرة فوجئت بعدها بأني وقعت ضحية (المبالغة) وبأن نهمي صار نقمة عليّ؛ فقد قادني إلى فراش المرض بالتسمّم، وفقدت إثر ذلك شهيتي كاملة للطعام لأسبوعين على الأقل. وهذا دليل قطعيّ لا يقبل الشك على أننا اعتدنا تسمية الأشياء بأسماء لا تنمّ عن حقيقة مسمياتها إيثاراً للترويح عن طريق المبالغة متفاوتة الدرجات التي ستبقى - على ما يبدو - مزاجاً سائداً عند العرب أجمعين في المشرق والمغرب، على حدّ سواء. |
* أستاذ سابق في الجامعة |
|