كان أكثر الحديث في الحلقات السابقة مُركزاً على قضية أمتنا الكبرى، قضية فلسطين، التي يعلم الكثيرون مدى ارتباط قضايانا الأخرى بها. وإذا كان جرح الأمة في فلسطين قد ازداد عمقاً ونزفاً نتيجة لعملية التهويد المستمرة للأراضي المباركة بما فيها |
القدس؛ مصادرة أرض وطمس هُويَّة؛ إضافة إلى تقتيل المخلصين من أبناء الشعب الفلسطيني، قادة وغير قادة، إلا مَنْ باع نفسه بدراهم معدودة أو غير معدودة، فإن جرحاً آخر في جسم أمتنا له خطره الفادح. ذلك ما حلَّ في بلاد الرافدين العزيزة لدى قلوب كل الذين يؤمنون بأمتهم؛ ديناً وعروبةً وحضارةً. |
كانت نشوة الأمل في بلوغ أمتنا ما هو جدير بها أن تبلغه من تقدم وتوحُّد وانعتاق تجعل من سلبيات ولاة أمورها مهما صغرت أمراً كبيراً. |
وكان من سلبيات العهد، الذي كان السياسي الداهية، نوري السعيد، رحمه الله، الدور الأكبر في توجيه سياسته، أن جعل العراق ركناً أساسياً في حلف بغداد؛ وهو الحلف الذي وقف ضده أكثر العرب؛ قيادات وشعوباً. لكن من أعظم إيجابيات ذلك السياسي الداهية نظافة اليد. وفي العهود التي أعقبت ذلك العهد ارتكبت جرائم يندى لها الجبين. ثم حلَّت ظروف يطول الحديث عنها، فكان من نكبات أمتنا تلك المواجهة الباهظة الثمن بين العراق وإيران. وما إن انتهت تلك المواجهة وكاد الجميع يتنفَّسون الصعداء حتى حدث غزو الكويت، الذي كان مما مهَّد السبيل لأعداء أمتنا كي يرسِّخوا وجودهم في منطقتنا العربية. |
وكان ذلك مفتاحاً من مفاتيح عدوان أمريكا المتصهينة إدارة على العراق واحتلاله. وإذا كان قضاء أمريكا على قوة العراق، سنة 1991م، خدمة جُلَّى للكيان الصهيوني كما صرَّح بذلك وزير خارجيتها، بيكر، في مذكراته، فإن احتلال ذلك القطر جاء مُكمِّلاً لتلك الخدمة كما قال رئيس أركان قواتها. |
ولقد ارتكبت نتيجة هذا الاحتلال أنواع شتى من الجرائم البشعة؛ تخريباً للبنية الأساسية في أكثر المجالات، ونهباً لكثير من التراث التليد أو تدميراً له، وتعذيباً فظيعاً للمعتقلين عشوائياً في أكثر الأحيان؛ إضافة إلى قتل أكثر من مليون إنسان - حسب دراسة بريطانية نُشرت مؤخراً -؛ إما بسلاح المحتل وأعوانه مسلوبي الضمائر، وإما نتيجة الفتنة الطائفية والعرقية، التي هي من أعظم أهداف أعداء أمتنا؛ وفي مقدِّمتهم الكيان الصهيوني والإدارة الأمريكية المتصهينة. |
ولقد كتبت كثيراً من المقالات لإلقاء ضوء - حسب مقدرتي المحدودة - على تلك الجرائم، لكن أفراداً من أمتنا طبع الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم حتى باتوا يغضبون ممن يوضِّح تلك الجرائم أو يشير إليها. |
وعندما أُخبرت بأن أحدهم غضب عليَّ بسبب ذلك كتبت هذه الأبيات: |
لا تلوموه إذا غضبا |
مثلكم مَنْ يعرف السببا |
حبُّ أمريكا تملَّكه |
فغدت أماً له وأبا |
وغدا يهذي بطاعتها |
ويرى تمجيدها قُرَبا |
ومعنَّى الحب مهجته |
تفتدي محبوبه طربا |
ما له إن كان فاتنه |
يكره الإسلام والعربا |
أو يكن عرَّاب صهينة |
تبتني في قدسنا نصبا |
أو يكن قد دكَّ جحفله |
صلفاً بغداد واغتصبا |
فتجلَّى فوق ساحتها |
بطش هولاكو وما ارتكبا؟ |
ولكم فينا من اُفْتُتِنَتْ |
نفسُه الرعناء بالغُرَبا |
عربيٌّ في ملامحه |
عاجزٌ أن يخفي الجربا |
يا لعصرٍ بات ديدنه |
أينما تنظر تجد عجبا! |
ولأني اختتمت الأبيات السابقة بالعجب، والتعجب، رأيت من المناسب مواصلة ذلك بتلاوة قصيدة تشبه في موضوعها تلك الأبيات، وعنوانها: (نهر من العجب). ومن أبيات تلك القصيدة، التي تلوتها في المحاضرة: |
من يكابر في تجاهله |
حيف أمريكا على العَربِ |
فهو جافٍ عند أمته |
موجبات الدين والنَّسب |
مثل مَنْ قد باع موطنه |
لذوي الطغيان كالجلبي |
|
والذي قد مسَّ مهجته |
لوثة من فاتك الوَصَب |
لا ترى عيناه ما ارتكبت |
من صنوف البطش والسَّلب |
دولة ساداتها جعلوا |
ذُلَّنا نوعاً من الطرب |
وإذا ليمت على صَلَفٍ |
ثار بركاناً من الغضب |
يا زماناً بات ممطره |
إذ همى نهراً من العجب |
كيف لا يبدو لناظره |
ما بدا من جرم مغتصب! |
سُلِّمت بغداد في طبقٍ - |
لعلوج الحقد - من ذهب |
وتلظَّى في مرابعها |
مستطير الرعب من لهب |
وجنت صهيون ما حلمت |
فيه من مستعذب الأرب |
وكان ختام المحاضرة، التي ألقيتها في مؤسسة عبدالحميد شومان بعمان، التي كانت تعبيراً عن مواقفي تجاه قضايا أمتنا؛ وبخاصة قضية فلسطين وقضية العراق، تلاوة قصيدة عنوانها: (صدى العيد) محاكاة لقصيدة المتنبي التي مطلعها: |
عيد بأية حالٍ عدت يا عيد |
بما مضى أم لأمرٍ فيك تجديد؟ |
ولأن هذا الجزء من المحاضرة خاص بالعراق قلت: |
المشفقون على دار السلام علت |
وجوههم من مآسيها تجاعيد |
جحافل الموت قد حلَّت بساحتها |
وخيم في لابتيها أهلها العيد |
وملتقى الرافدين المستطاب غدا |
فيه لأقدام محتليه توطيد |
أين المفرُّ؟ وهل في الأفق من أمل |
يُرجَى؟ وهل يعقب التمزيق توحيد؟ |
مستقبل ليس يدري كنهه فَطِنٌ |
في رأيه عند طرح الرأي تسديد |
والعيد عاد ودامي الجرح يسأله |
(عيد بأية حال عدت يا عيد)؟ |
|