Al Jazirah NewsPaper Monday  11/02/2008 G Issue 12919
الأثنين 04 صفر 1429   العدد  12919
الكتابة العربية لا تزال شفهية! الكتابة الصحفية(1)
د. عبد الرحمن الحبيب

ليست الكتابة بحد ذاتها دليلا على أن المكتوب ينتمي للثقافة الكتابية أو ثقافة التدوين، فثمة كتابات هي أقرب للقول المحكي، اسميها الكتابة الشفهية، وهي التي لا تلتزم بأسس واشتراطات الكتابة ولا منهجية الكتابة. وفي تقديري أن هذه الكتابة في العالم العربي تطغى على الكتابة التحريرية التي تأخذ بشروط الكتابة الموضوعية أو الأدبية.

الاختلاف بين الشفهي والكتابي تشمل منظومات من التواصل المعرفي، حيث في المخاطبة يدخل التداول المباشر والذاكرة والانفعال العاطفي ولغة الجسد كجزء من الاتصال شكلا ومضمونا، ويتم تناقلها بين أفراد محدودي العدد، دون شرط الالتزام بقواعد النشر أو ترتيب الأفكار؛ بينما الثقافة الكتابية تعتمد على التسجيل المدون (دقة النقل)، وعلى التوثيق (المصداقية)، وعلى التنظيم (المنهجية)، وعلى المهنية (التخصص)، وهي تتوجه إلى قطاعات ضخمة من الجماهير.. هذه الاختلافات تتفاعل مع الخلفية التاريخية لكلا الثقافتين، ثقافة البداوة والترحال المعتمدة على التناقل الشفوي للمعرفة، وثقافة المدنية والاستقرار المعتمدة على التناقل الكتابي (أو التدويني) للمعرفة.. بين ثقافة تعتمد على الارتجال وثقافة تعتمد على النظام..

ولو استعرضنا الكتابات في أغلب الصحف العربية، وحاولنا مراجعة أهم عناصرها، وهي: الخبر، المقالة الخدماتية، المقالة الفكرية، التقرير، التحقيق، الحوار.. سنجد أنها غالبا تعتمد على الارتجال، أي المنطق الشفهي، أو ثقافة (الحكي)، حيث لا تلتزم بقواعد الكتابة الصحفية.. ويستثنى من ذلك (الخبر)، إذ نجد أنه قد يكون نصا من وكالة دولية أو من جهة حكومية محدد الصياغة والتوثيق سلفا فلا دور للصحيفة ولا المراسل في ذلك.

أما الأخبار الخاصة بالصحف، خاصة المثير منها، فهي في كثير من الحالات تفتقر لمتانة التوثيق.. فكثيرا ما تطالعنا الصحف بخبر مهم يكون المصدر مجرد شاهد عيان لا يكفي الاعتماد عليه، أو يكون من جهة غير محايدة، أو مصدر غير معروفة درجة مصداقيته.. مثلا، قد ينشر صحفي حالة تعرض فيها مريض لخطأ فادح في إحدى المستشفيات، فيتم نشر الخبر دون التأكد من الأطراف الأخرى.. وعندما يكون الخبر عن حالة خارجية يكون عدم التوثيق فاضحا، فتجد المراسل ينقل خبرا مثيرا عن اعتقال مسلم في بلد أوروبي، أو عن موقف جامعة أمريكية ضد طالب عربي، وقد يكون المصدر رسالة هاتفية من صديق أو قريب للضحية المفترضة، دون الرجوع للجهات الأخرى أو لجهة محايدة أو لأي مصدر آخر يدعم أو يضعف رواة الخبر.

أهم مقالات الصحف هي المقالات الخدمية الناقدة أو المحللة، نجد أن أغلبها تستند على مصادر غير موثقة: معلومات عامية، حكي مجالس (قال لي أحدهم)، رسالة قارئ، إشاعة قوية، انطباع شخصي، تجربة فردية، معلومة رسمية ناقصة.. أو تستند على مصادر هي في الأساس متوفرة للناس، كخبر نشر في صحيفة أو قناة تلفزيونية، وكل ما يقوم به الكاتب الناقد هو نقل هذا الكلام ووضع جمل ساخرة للتندر بالخبر بلا تحليل منهجي، ودون أن يجهد نفسه بمعرفة معلومات أساسية في الموضوع، أو يبحث في النقص في هذه المعلومة، أو يحاول إضافة معلومات أخرى مستجدة تعطي فائدة.

ويكتب كل ذلك بلا اعتبار لأصول الكتابة التحريرية، فكل ما هنالك مجرد (فش خلق) وردح بالجهة المنقودة، تجد صدى هائلا بين الجماهير العربية الناقمة عاطفيا على تلك الجهة المنقودة (الصحة، الكهرباء، المياه، التجارة، المدارس، الاتصالات)، لذا لا عجب أن يغدو كتاب هذه المقالات في مصاف النجوم.. المطلوب هنا، هو جرأة وخفة دم، أما التوثيق وتحديث المعلومات والقدرة على التحليل والثقافة وسعة الاطلاع فيظن أصحاب هذه المقالات أن مكانها هو الجهات الأكاديمية!

ومن الأمثلة المتكررة في ذلك أن يتناول الكاتب خبرا صحيا مثيرا نشر في الصحف، ثم يضع العديد من الأسئلة الأولية - وكأنه قارئ - دون أن يبحث عن الأجوبة من الجهات المختصة بهذا الخبر.. ولا أقصد بالأسئلة هنا تلك الاستنتاجية أو تلك التي تتفرع من الأسئلة الأولية، بل تلك التي يعتمد عليها أساس الموضوع، التي ولو بحث الكاتب عنها من مصادرها أو في الإنترنت مثلا لمدة نصف ساعة فقط، لوجد أنها تجيب على كثير من الأسئلة التي طرحها!

ومن أشهر الأمثلة لدينا هذه الأيام، موضوع ترشيد استهلاك المياه، فلقد قرأت العشرات مما كتب في المقالات الخدمية عن هذا الموضوع، ويمكنني أن أختصر أغلبها على النحو التالي: هناك أزمة مياه حادة ولم يعمل أي شيء لمواجهة هذه الأزمة ولا للترشيد في استهلاك المياه. مثل هذا النقد هو أقل مهنية من كلام المجالس، لأنه عمل الكثير في ترشيد المياه، وكان على الناقد أن يسأل أو يبحث، وبعد أن يعرف ماذا عمل، يأتي دوره النقدي في تسجيل الملاحظات أو القصور أو حتى التهكم إذا أراد فهذا حقه النقدي.

وبالانتقال إلى المقالات النقدية التحليلية (سياسية، اقتصادية، اجتماعية، ثقافية) تغدو الحالة أكثر سوءا، فأغلب المقالات في الصحف العربية تكتب على طريقة التفكير بصوت عال، وكأن الكاتب يتحدث في مجلس، حيث يضع آراءه دون إطار منهجي ينظم الأفكار ويعرضها ويحللها ليصل إلى نتيجة مرتبطة موضوعيا بالسياق.. وفي مثل هذه المقالات قلما نجد تحديث للمعلومات أو لأدوات تحليل جديدة أو مناقشة آخر الآراء والنظريات والمستجدات الفكرية.. ولا يهتم كثير من الكتاب بمسألة الصياغة والأسلوب والتسلسل المنطقي والسلاسة، وانسيابية الانتقال من مقطع لآخر ومن فكرة لأخرى.

ومن أكبر الكوارث في صحافتنا العربية التي نجدها في المقالات الفكرية هي التوثيق والمصداقية.. فكثير من الكتاب لا يتأكد من دقة المعلومة التي نقلها من صحيفة أو قناة أو ربما مجلس مثقفين. وهنا للأسف أعرف أن كثيرا من الكتاب لا يرون أن المعلومات في المقالة التي يكتبونها يجب أن تكون من مصادرها الأصلية، ولا يعترفون أنه إذا لم تتوفر مصادر أصلية فلابد من الرجوع لأكثر من مرجع عال المصداقية، بل يثقون بما يصلهم من مرجع واحد غير محددة درجة مصداقيته.

المقالة الفكرية ليست مجرد طرح أفكار جميلة و(سواليف) ثقافية، فليست العبرة بجمال الأفكار فقط بل بطريقة تنظيمها وصياغتها، وإضافتها للمعلومات، ومصداقية نقلها لهذه المعلومات، واختبارها للفرضيات المطروحة، وقدرتها على البناء التراكمي للفكرة حتى الوصول للاستنتاج المطلوب.

من السليم أن تُمارس أنواع مختلفة من الكتابة بما فيها الشفوية، لكن الإشكالية أن يطغى هذا النوع على ما عداه..

إن كل ما ذكرت من نواقص لمقومات الكتابة الصحفية عائد في أساسه إلى سسيولوجيا المعرفة العربية، حيث تسود أساليب المعرفة الشفوية، وحيث تسوق أساليب الجهل وتنتشر بأدوات معرفية يمارسها مثقفون عرب.. إنه الجهل المؤسس على ثقافة الارتجال..



alhebib@yahoo.com
لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 6848 ثم إلى الكود 82244

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد