كنتُ قد قرأتُ بتأثُّر بالغ في شهر رمضان الماضي ما كتبه الأستاذُ القديرُ نجيب الزامل في زاويته الثابتة بصحيفة (الاقتصادية) عن مأساة الشاب السعودي ناجي محمد الأحمد، الذي اختَطَفَ منه حادثٌ مروريٌّ أليمٌ حاسةَ السمع، وسبّب له شللاً نصفياً، ولما يتجاوز الثامنة عشرة بعد من العمر، لكن الله عوضه بذكاء حاد وذائقة فنية وأدبية، ولم يكن له مصدر رزق سوى ريع لوحات فنية كان يرسمها ثم يبيعها طلباً للزاد! وتابع في الوقت نفسه دراسته الثانوية حتى بلغ نهايتها متفوقاً، ثم تقدم إلى إحدى الجامعات أملاً بإكمال مشواره التربوي ليصدم بحجب قبوله بحجة إعاقته صوتاً وحركة!
* *
* وفي هذه الأثناء، اكتشف إصابته بمرض خبيث في الدم لم يمهله طويلاً، فمات مأسوفاً عليه متأثراً بذلك، وشيعته الحسرات والعَبرات إلى مثواه الأخير، وبقيت سيرته بين أهله ومحبيه ومَن عرفه أو عرف عنه تهزُّ القلوب حزناً عليه، وتُبلل أسنَّة الأقلام بمداد الأسى من أجله!
* *
* وقد تابعتُ باهتمام ما كتبه الأستاذ نجيب الزامل في أكثر من حلقة عبر زاويته في (الاقتصادية) عن مأساة ذلك الشاب، الذي لم تحرمه الإعاقة من مواهب العقل والنفس والإحساس، وكان يمكن أن تؤهله مجتمعة لموقع ما في واحد من دروب الحياة الواسعة لو لم يصادر منه المرض القدرة على الاستمرار في تحقيق أحلامه، فمات غبناً وحرماناً، وتلك إرادةُ الله لا مُبدل لها!
* *
* ثمَّ كتبتُ في شهر شوال الماضي عَرْضاً خاصاً لصاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن سلمان، رئيس مجلس إدارة جمعية الأطفال المعوقين، أشكو إليه ما حَلَّ بذلك الشاب الذي رفضته الجامعة ولفظته إلى فيافي اليأس، ليداهمه بعد ذلك الموت، وينتزعه من روض الحياة زهرة زاخرة بالحركة والحياة، وختمتُ العرض لسموه قائلاً ما معناه.. إن مأساة ناجي الأحمد ستبقى عبرة لمن اعتبر، بعد أن سقط شهيداً في معركته مع إعاقة السمع والحركة وكافحها حتى آخر رمقٍ في حياته!
* *
* وقبل أيام قلائل، تلقيتُ رسالةً رقيقةً من سموه الكريم تعليقاً على ما رفعتُهُ له حول الموضوع، هذا نصُّها:
(.. استلمتُ شاكراً خطابكم المؤرخ في 15-10-1428هـ الذي تعرضتم فيه لمأساة الشاب ناجي الأحمد التي صاغها الكاتب نجيب الزامل في صحيفة (الاقتصادية)، وتجاوباً مع خطاب معاليكم فقد خاطبتُ معالي وزير التعليم العالي لتذليل العقبات أمام المعوقين لتمكينهم من مواصلة تحصيلهم الجامعي أسوة بأقرانهم الأصحاء..).
* *
* ومضى سموه قائلاً: (.. وقد تلقيتُ نسخة من برقية معاليه الخطية (المرفقة) الموجهة لأصحاب المعالي مدراء الجامعات بالمملكة لتذليل الصعاب التي تعترض المعوقين الراغبين في الالتحاق بالجامعات، شاكراً تلمس معاليكم لهموم المعوقين والذود عنهم بقلمكم المبدع..).
* *
* أما خطاب معالي وزير التعليم العالي التعميمي لأصحاب المعالي مدراء جامعات المملكة الذي أشار إليه سمو رئيس مجلس إدارة جمعية الأطفال المعوقين فقد تضمن تجاوباً كريماً يُحمد لمعاليه تعاطفاً مع ما تضمنه خطاب سموه الكريم، ثم ختم معالي الوزير خطابه سالف الذكر بعبارة مؤثرة جاء فيها ما يلي:
(.. وحيث إنه ليس كل من لديه إعاقة جسدية يصبح عاجزاً عن الدراسة بل هناك مَن لديه القدرة على التميّز؛ لذا نأمل من الجامعة دراسة الموضوع واتخاذ اللازم بما يحقق المصلحة العامة، وعدم قفل الأبواب أمامهم، وأن تُدرس كل حالة على حدة، وتقديم كل أنواع المساعدة لهم..)!
* *
وبعد..،
فإنني أهدي هذا الحديث إلى روح الفقيد ناجي الأحمد، الذي خدم الإعاقة في حياته طموحاً فبذلاً فتفوُّقاً، وخدمها بعد مماته برد الاعتبار إلى أنداده المعوقين في كل مكان.. حين يقودهم طموحهم وتفوقهم إلى أعتاب التعليم العالي، ليجدوا أبوابه مشروعة لهم بإذن الله!
وشكراً من الأعماق لسمو الأمير سلطان بن سلمان ومثله لمعالي وزير التعليم العالي، ورحم الله الشاب ناجي بن محمد الأحمد وأرضاه؛ فقد كان قضية في حياته وبعد مماته!