تحدثتُ في مقال سابق بعنوان: (الفقر ليس سبباً للجريمة)، وقد اتصل البعض مبدياً وجهة نظره التي لا تتفق مع ما ذكرتُ، ومصراً على علاقة الجريمة بالحاجة والفقر.. ولكي أوضح وجهة النظر التي طرحتها أعود للموضوع المشار إليه، وهو أن آباءنا وأجدادنا بعد توحيد المملكة واستقرارها على يد موحد الجزيرة -رحم الله الجميع- مرُّوا بسنوات عجاف قاربت نصف قرن قبل أن تتحول بلادنا إلى دولة من أغنى دول العالم. وما أصدق قول الحق: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً}.
أقول ومع ما مرَّ به جيل الآباء والأجداد من الفقر والفاقة والعدم الذي وصل بهم إلى حد الموت جوعاً، أو الموت عطشاً، أو الموت برداً، حتى أكلوا ما لا يؤكل كالجلود والنوى والنبات وربما الميتات، ومع ذلك فقد كان مجتمعنا مضرب المثل في الأمن وفي نبل الأخلاق، وعفة اليد واللسان والفرج.. نحن لا ننكر ما كان سائداً في الماضي البعيد من ممارسة الغارات والسلب والنهب، لكن ذلك كان عُرفاً أخلاقياً جاهلياً ونظام حياة خاطئ توارثه القوم لغياب السلطة التي تقيم العدل وتحفظ للناس حقوقهم، وقد زال ذلك عندما زالت أسبابه بقيام الدولة وانحسار الجهل.. أما ما يحدث اليوم فهو مختلف تماماً، حيث نرى من شباب هذا الجيل من يسرق سيارة من أجل التفحيط، ومن يقتحم المدارس والبيوت من أجل العبث بأشيائها، ومن يجوب الشوارع بسيارته الفارهة ليمارس أنواعاً من العبث الأخلاقي والتحرش بالنساء أو إيذاء الآخرين، ومخالفة الأنظمة المرورية بكل فوضوية.
لقد ثبت لدينا أن التسول والمتسولين الذين يجوبون الشوارع لم يخرجهم الفقر والجوع، بل إن معظمهم -إن لم يكن كلهم- قد أخرجتهم عصابات تمارس جمع الأموال بطرق ملتوية تستغل فيها هؤلاء الضعفاء، وتستثمر المحتالين ومعظمهم متسللون أو متخلفون لا يحملون إقامات نظامية ولا أوراق ثبوتية.. كما اتضح أن سرقة الكيابل والمعادن والآلات الثقيلة من شوارعنا ومزارعنا، وتمرير المكالمات الهاتفية المختلسة، يقوم بها في الغالب عصابات من العمال من جنسيات معينة..
أما ممارشة الرشوة والاختلاسات المالية -وإن كانت لا تعد ظاهرة في بلادنا ولله الحمد- فإن من يقوم بها موظفون أو مسؤولون أو سماسرة لم يجبرهم الفقر أو الجوع على ذلك.
بل إن الشاب المدلل الذي لا يبالي بقطع الإشارة أو السير بعكس اتجاه الشارع، أو اقتحام الأرصفة بسيارته وتشويه الممتلكات العامة، كل ذلك يدخل في التعدي على الحق العام، وبمعنى آخر فهو سرقة في وضح النهار لأنه مصادرة لحقوق الآخرين، وتطاول على حقوق الدولة وأنظمتها.
إن فئة تقوم بهذه الممارسات بلا مبالاة ولا حياء ليس لديها ما يردعها عن سرقة الأموال والممتلكات الخاصة والعامة إذا وجدت الفرصة لذلك.. لكن المهم أنها سرقة أساسها سوء الأخلاق والاستهانة بسلطة النظام، وليس مبعثها الحاجة للسرقة دفعاً لغائلة الموت جوعاً أو عطشاً!