كنت في مكة المكرمة في الفترة ما بين 16 - 21 من شهر ذي القعدة الماضي وعجبت لذلك الزِّحام الشديد في المسجد الحرام وساحاته الفِساح، ولتلك الأفواج البشرية التي تملأ الحرم المكي وساحاته تماماً في أوقات الصلوات مع أنَّ موسم الحج لم يحن بَعْدُ، وكنت أعيش فترات تأمل طويل في هذه الأصناف من البشر التي قدمت إلى هذه الرحاب الطاهرة من كل فج عميق.
جنسيات متعددة وألوان مختلفة، ولغات متباينة، ومذاهب وأحزاب وأفكار، كلّها تنصهر في هذا المكان بصورة لا نظير لها في العالم ولن يكون لها نظير، وبينما كنت جالساً أتأمل تلك الحشود المتزاحمة حول الكعبة المشرفة، بعد أن طفت طوافاً طال وقته بسبب الزِّحام رأيت رجلاً يدلُّ شكله ولون بشرته على أوروبيَّته، وقف بجواري متجهاً بوجهه إلى الكعبة رافعاً يديه إلى السماء يبتهل إلى الله بدعاء سمعت أكثره يطلب الله المغفرة بلسان تشوب منطقه لكنة أعجمية أضفت عليه قدراً من التأثير، وطال مقامه في الدُّعاء حتى تهدَّج صوته وبكى، فنقلني معه إلى جوٍّ روحي عجيب، ثم أكثر من قول آمين والصلاة على سيِّد المرسلين وجلس بجواري، ففرحت بجلوسه، وتركته وقتاً قصيراً ثم مددت يدي إليه مسلِّماً، فصافحني بحرارة الإخوة الإسلامية، وقوَّة شابٍ مسلمٍ متحمِّسٍ، وفتحت معه باب حديث كنت فيه السائل وكان المجيب، علمت منه أنه من (النرويج) وأنه حديث عهد بإسلامٍ، فقد أسلم قبل عامين تقريباً، وكان سبب إسلامه ما رآه من حربٍ إعلاميةٍ في أمريكا وأوروبا على الإسلام والمسلمين، فقد شعر بالرغبة الشديدة بعد استماعه إلى كثير من البرامج عبر الوسائل الإعلامية الغربية، في التعرُّف على الإسلام عن قرب، ولم يزده عنف الحملة الإعلامية ضدَّ الإسلام والمسلمين إلا رغبةً في معرفة هذا الدين الحق، وهؤلاء الناس الذين يعتنقونه ويؤمنون به، ويتهمهم الإعلام الغربي بالأصولية والإرهاب، واتجه إلى جماعةٍ من المسلمين في بلده طارحاً عليهم أسئلة الباحث عن الحقيقة فما مكث إلا قريباً من شهر في مرحلة السؤال، حيث رأى نور الحقِّ ساطعاً فيما عرف عن الإسلام والمسلمين، فدخل إلى رحاب الدين الحق موقناً به، وأقبل برغبةٍ شديدةٍ عليه قراءةً للقرآن، وللحديث النبوي، وتَعَلُّمَاً للغة العربية، وغسل روحه وقلبه وعقله من أدران الكفر التي كانت تقتل إحساسه بالراحة والصفاء.
وأخبرني أنه الآن يعيش أعلى درجات الإحساس بالسعادة لأن أمنيَّته الكبيرة في حج بيت الله الحرام ستتحقَّقُ هذا العام إن شاء الله، ولأن رؤيته المباشرة للكعبة والبيت الحرام، ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة قد أصبحت واقعاً حقيقياً، وأكد لي أنه سيعمل جاهداً على زيارة المسجد الأقصى في وقت قريب.
كان الأخ (محمد) النرويجي يتكلَّم وكنت أتأمل حديثه وطريقة كلامه، ولكنته الأعجمية، وملامح وجهه الناطقة بما يفيض به قلبه من السعادة، وأقول: ما أعظم هذا الدين وما أحوج الناس إليه، وما أكبر تفريط معظم المسلمين في هذا الكنز الروحي العظيم الذي منَّ الله به عليهم!.
هذا جانب من جوانب فوائد الحملة الإعلامية الغربية الكبرى ضدَّ الإسلام والمسلمين، يؤكد لنا عظمة هذا الدين.
إشارة:
