| |
يارا الديموغجية عبدالله بن بخيت
|
|
لا أرد على تعليقات القراء على ما أكتب. ما أثرته في ذهن القارئ يختلف من شخص لآخر ومن مستوى معين إلى مستوى آخر. أعتقد أني أكتب بكل ما أستطيع من فصاحة ولا أرى أن هناك ما يمكن أن أضيفه في الموضوع حتى بعد أن تأتي ملاحظة القارئ. مرة من المرات أزعجني (بكل ما في الكلمة من معنى) أزعجني قارئ برغبته في الحوار معي حول بعض آرائي التي أكتبها. أوضحت له شيئاً واحداً: أن ما أكتبه على صفحات الجريدة هو أقصى ما أستطيع أن أصرح به للغرباء. وبالتالي لن يحصل على أكثر مما قرأه. هذا لا يعني أني أقول شيئاً وأخفي شيئاً في المسائل الأساسية ولكن هناك شيئاً من الحميمية حتى في المواقف العامة. مواقفك من الأحداث والأفكار ومن الناس. وهناك أيضاً مواقف لم تنضج بعد على المستوى الفكري بالنسبة لك أو أن يكون الرأي العام لم يتهيأ بعد لاستقبالها. تلقي الأفكار الجديدة يحتاج إلى مراحل متدرجة وتطور وأدوات معرفة. والأخيرة على غموض دلالتها هي الأكثر أهميةً في تطور الأفكار وتقبل الناس لها. أدوات المعرفة هي الآلية الأساسية التي توفر للإنسان القدرة على التفكير والقبول والتفهم. الإنسان سجين أدواته. لا يستطيع أن يتحرك الإنسان من الرياض إلى جدة إلا بأداة تبدأ من القدمين إلى أن تصل للطائرة. فكلما زادت أدوات المرء حذاقةً وتطوراً زادت قدرته على المعرفة. ممكن الوصول إلى جده بالقدمين ولكن بكلفة عالية ستغير من طبيعة المهمة. أستطيع أن أطول في الكلام وأفكك الأداة التي أستخدمها إلى مستوياتها الأدنى لكني لا أستطيع أن أغير الطريقة التي يفكر بها الآخرون. فالأداة في ذاتها هي طريقة تفكير وعامل من عوامل الذكاء المعرفي. عند تفكيك الأداة لا يمكن أن تعمل بالصورة التي خلقت لها. مسألة معقدة. لا بد من ضرب مثال على ذلك. يتفوق بعض الدعاة الديمغوجيين على الكتاب الرصينين. يلاحظ أني استخدمت كلمة (الديمغوجي). بغض النظر عن صدق العبارة ودقتها وما تنطوي عليه من رأي يمكن تقبله أو رفضه. لم أكتبها لنقل محتواها إلى وعي القارئ بقدر ما أريد مناقشة الأداة الأساسية التي استخدمت فيها. عدد قليل من القراء يمكن أن يصل إلى الرسالة التي تنطوي عليها هذه العبارة التي تسيطر عليها كلمة ديموغوجي وهي أداة من أدوات المعرفة ولكنها لا تستخدم إلا في مرحلة معينة من المعرفة المشتركة بين الكاتب والقارئ. غياب هذه الأداة عن وعي كثير من القراء يجعل قدرة الكاتب على التعبير محدودة بالمرحلة، فالتنازل عن الأداة ليس تبسيطاً كما يبدو ولكنه تنازل عن مستوى معين من الفكر. غياب هذه الأداة لا يعني غياب كلمة يمكن شرحها وتجاوز تأثيرها ولكنه يعني غياب مفهوم مشترك. كل أداة معرفة هي مفهوم. أتذكر في إحدى السنوات دار نقاش كبير حول كلمة (عتاب). كلمة بديهية في ذهن المستمع العربي ولكنها صعبة ومجهولة بالنسبة للمستخدم الإنجليزي. لا يوجد في اللغة الإنجليزية كلمة تقابلها. فالعتاب يمكن أن تفسر على أنها (اللوم بمحبة). اللوم لتصفية القلوب وليس لإثارة الشعور بالذنب. عجز المترجمون توضيح دلالتها لأحد الرؤساء الأمريكيين عندما أطلقها أحد الزعماء الخليجيين للوم الولايات المتحدة على تصرفها في المنطقة. كلمة ديموغوجي تعني بتبسيط شديد مجموعة من التصورات الدينية أو السياسية أو الأيدلوجية غير المختبرة وغير المدقق في صحتها والعمومية في مفهومها يفرضها أصحاب سلطة فكرية لكسب الجماهير بغض النظر عن مصالح هذه الجماهير. ورغم سيادة الديموغجية بين الدعاة الدينيين في المملكة وفي العالم الإسلامي إلا أن تدمير هذا التوجه أمر متعذر. لغياب مفهوم الديموغوجية عن ذهن القارئ أو المتلقي. فالمستمع لا يستطيع حصر الحملات الدعوية التي تنطوي على هذا المفهوم في مصطلح معرفي واحد وبالتالي غابت الرؤية النقدية وحل محلها الاستسلام والإذعان. الكاتب الذي يريد أن يوجه النقد إلى هذا التوجه سوف يضطر أن يلملم دلالات كثيرة مبعثرة. غالباً مصيره الإخفاق. فالديموغجية قوة عاتية لا تكتفي باكتساح العقول بل تتعداها إلى تحطيم خصومها. قوتها تأتي من غياب حصرها في (آلة معرفية) محددة يستطيع المتعرض لها أن يراها في قالبها الصحيح واختبار دعواها. من هنا لا يستطيع الكاتب أن يبوح بالحقيقة ليس لأن هناك سلطة رقابية يخاف منها فالمسألة أصعب وأخطر ولكن بعض القراء المحكوم بسيطرة الديموغجيين لا يمكن أن يفهم سبب رفض الكاتب الحوار معه. لا يفهم أن المسألة تعود إلى غياب أدوات المعرفة المشتركة.
Yara4U2@hotmail.com |
|
|
| |
|