مصير لاعب كرة
قصة: وفاء الطيب

- هل أستطيع الدخول؟
سألت الممرضة بعد أن دخلت بالفعل لتقيس حرارته وضغطه ونبضه كعادتها منذ أن استلقى على هذا السرير.. دوَّنت شيئاً على الورقة بمحاذاة سريره، ثم منحته ابتسامة باردة وقالت: سأعود لأُغيِّر للجرح.
أي الجراح يحتاج إلى تغيير ضماداته.. جراح ساقه التي كانت.. أم جراح قلبه الذي تقطعت شرايينه وأوردته.. لا أريد مكالمات ولا زيارات.. فقط أريد بعض السكينة لروحي.. اخرجي من غرفتي كل تلك الورود البيضاء والحمراء والصفراء.. فأنا لا أبصر غير لون واحد لون جرحي المفتوح.
- هل أنت خاطب أم متزوج؟ سألته الممرضة بشيء من الإشفاق وكأنها تريد أن تستفهم عن سر غياب أي بصمة أنثوية في حياته (كنت خاطباً وعلى وشك الزواج).. وفهم من نظرة عينها أنها تسأل عن خاتم الخطوبة.. فأشار إلى النافذة.. (رميت به مع فردة الحذاء من النافذة، أتذكرين ليلة أن خلعت ثيابي كلها ونظارتي والحزام الطبي وحذائي؟ لقد خلعت الخاتم ورميت به من النافذة.. كنت على ثقة من أنها ستتخلى عني كما تتخلى عن ثوب قديم في خزانة ثيابها أتعلمين؟ أنا الذي ملأت خزانة ثيابها بالحرائر الجميلة والعطور الثمينة من مخازن لندن وباريس وأثينا.. رصعت معصميها بالأساور وطوقت عنقها الجميل بالعقود.. في كل رحلة دوري أو كأس كانت تودّعني بالعبرات وتستقبلني بالسؤال عن الهدايا.. تعلمت أن أصافحها باليد وأُقدِّم هدية باليد الأخرى.. وأنتظر أن تجلس على حافة مقعدي لتنظر إلى قدمي بإعجاب.. يا لقدمك الذهبية!!
لا بد أنها متعفنة في مكان ما تنتظر الدفن.. وربما رموا بها في القمامة.. من يهتم بساق مبتورة؟!
نسيت أن أسأل عنها بعد العملية.. أنتِ طبعاً لا تعرفين شيئاً عنها.
توجهت الممرضة نحو الباب خشية أن تدخل معه في أسئلة لا تستطيع الإجابة عليها فهي ممرضة في قسم العمليات وظيفتها أن تقيس درجة الحرارة والنبض والضغط ثم تسقي الدواء.. دون أن يبلِّغها أحد أين تدفن الأطراف المبتورة.. قبل أيام سألتها ممرضة شابة أين وضعوا مرارتها؟ قالت إنها تريد أن ترى مرارة الأشياء التي تكدَّست بداخلها.. وسألها شاب موجوع أين وضعوا الشريان الذي استأصلوه من قلبه! كان يريد أن تراه حبيبته.. ثم سألتها طفلة بريئة عن لوزتيها.. لماذا لا يعيدونهما إليها؟
قال لها في استعطاف قبل أن تخرج من الغرفة: (لا تذهبي من فضلك) توقفت قليلاً ولم تستدر إليه.. تصنَّعت الاستعجال حتى لا يبدأ بالسؤال.
- هل عندك وقت لتسمعي القصة!
لم تشأ أن تخجله فليس في هذا المكان ما يستحق أن يكون قصة تثير شهيتها للإصغاء.. فقدت القدرة على الدهشة أكثر مما سمعته من قصص! ليس هناك ما يثير الشفقة فلا بد أن خطيبته التي طاردت شهرته سوف يطاردها شبحه وهو يسير بعكازين كان قد فهم أن قصته لن تثير اهتمامها فقال مسلماً: (ألا يهمك أن تعرفي مَنْ هي) (حصة)؟ تراجعت الممرضة قليلاً دون أن تشعره بذلك.
(حصة) تلك تكون ابنة عمي التي خلعت من أصبعي خاتمها قبل عامين ورميت به على الطاولة أمامها.. أحسست يوماً بلذة التملُّص من حبال قد تشدني إلى الوراء.. كنت مستعجلاً أحلم بالشهرة والثراء والتوقيع على دفاتر المعجبات.. كنت مستعجلاً .. لا وقت لدي أُضيّعه مع أنثى لا تريد سوى الحب.. ولا شيء غير الحب.. هناك أشياء كثيرة وقتها كانت عندي أهم من الحب.. لم يكن لدي وقت لسماع عبارات وردية ليس هو أوانها.. وأنا لاعب كرة وقته ليس ملكه.. دائماً أتطلع إلى الأمام.. اللاعب الحقيقي لا ينظر خلفه حتى لا تفر الكرة منه، قاومت حبها.. فلم أكن أريد أن تتسلل إلى ملعبي بهدوئها وعذوبة صوتها الذي يخدرني.. أنا لاعب كرة أموت لو تخدَّرت حواسي دقيقة واحدة.. حتى عندما أسقط على الملعب وأتألم أرفض أن يسكبوا المخدر على موضع إصابتي! أريد أن أبقى متيقظاً حتى النهاية!! اللاعب اليقظ يعرف كيف يسدد هدفاً حتى في الوقت الضائع! و(حصة) ليست من النوع الذي يليق بحياة الملاعب.. إنها لا تعرف شيئاً عن ماركات الأحذية والفانيلات.. وتخلط كثيراً بين (الهلال) و(الاتحاد) على النقيض من (هيفاء) التي تجيد لغة التسلل إلى الملعب.. جلست على النجيل الأخضر ثم رمت بالكرة على الشباك وصنعت هدفاً جميلاً لا يد لي فيه.. ولم أستطع مقاومته.. كنت حارس مرمى ضعيفاً جداً.. كانت تُقدِّم لي في كل مناسبة حذاء جديداً وفانيلة وميدالية.. (هيفاء) امرأة تعرف كيف تصوغ كلمات التشجيع وهي تتفرَّج معي على مباراة بين فريقي وفريق آخر! تعرف كيف تقفز وتصيح.. تضرب بيدها على الطاولة ثم تحيط بذراعيها حول عنقي كلما سددت هدفاً.. هل فهمت شيئاً؟
كانت الممرضة تتهيأ للخروج ولم تشأ أن تخبره أنها فهمت! إذن تلك هي (حصة) التي بكت على الهاتف وسألتها عن قدمه المبتورة!