| |
أطياف ذكرى..! ميسون أبوبكر
|
|
في أحد شوارع المدينة الكبيرة القديمة الثكلى بذكريات الماضي لامس أوتار روحها شيء أدخل الدفء إلى جسدها من رأسها حتى أخمص قدميها، شيء أعادها إلى الوراء عشرين عاماً وأضاء فيها شموعاً كانت قد انطفأت ورعشة كانت قد راودتها لأول مرة في الماضي البعيد. هل من السهل حقاً أن نبعثر الماضي.. كل الماضي في لحظات.. هل من الممكن بسهولة أن نعود بمنتصف العمر للوراء، لنعيش اللحظة ذاتها التي حملنا نعشها ودفناها في أعماقنا؟ هل من الممكن أن ينهض شيء فينا كنهضة أهل الكهف من سباتهم، لكن من نهض فينا بتنا غرباء عنه هو في الزمان والمكان.. وفي الجسد الذي صار غريباً عنا ولم نعد نملك أفراحه أو أحزانه أو نملك خارطته. هل النظرة ذاتها التي كانت تعودت أن تراها في رجل حمل في قلبه الصغير كل حنان الكون، وفي نظراته ترى كل دروب الحب بأمسياته وآلامه وأشواقه وأحلامه، لحظات تجد نفسها أمام ماض بأكمله وأمام حب كانت قد طوته صفحات الذاكرة ولم تنعشه الحقيقة حتى اللحظة. الحاضر يعود للوراء عشرين عاماً.. وإذا به الرجل نفسه الذي حاولت جاهدة أن تعود نفسها على فراقه.. هو هنا وحيث كانا يلتقيان منذ زمن وكان آخر لقاء، حمله المكان والأقدار إليها من دون موعد، فاستحضرت اللحظة كل الأشواق والحب المدفون عميقاً والحياة عادت من جديد.. صار للحياة نبض آخر في عروقها يعني الحياة من أجل الحياة وليس من أجل البقاء فقط. صارت في لحظات كالشاطئ حين يعود الموج إليه بعد جزر وغياب فيرطب رمله ويهديه كنوز الأعماق وأصدافاً ومحاراً. ماذا تراها تصنع بعد: تتذكر حين قالت له ذات مساء: لا أريد أن أحبك أكثر لأنني أخشى أن أدمن حبك.. أجابها: لك أن تحبيني كيفما تشائين.. فردت لأنني أخشى من فقدانك وفراقك. تمر هذه اللحظة صعبة قاسية تتمنى لو تعود لشكلها كما كانت منذ عشرين عاماً.. تريد نفسها أمامه صبية في الثامنة عشرة.. تعرف إليها حيث لم تتكلم وعرفته حين استفاقت.. لقد اهتدت حواسه وجوارحه لتلك المحبوبة التي سلبها الزمان منه، كانت تعلم أن الحب إذا أراد أن يعيش فيجب أن يتوقف عليه الزمن ليصبح ذكرى كي لا يمر بخريف العمر وعجزه. وها هو يصبح كالمارد حين يخرج من قمقم الأعماق. وقف بكل الماضي أمامها ووقفت بكل ما حملته أيام، الأيام يقتلها الصمت وفراغ الكلمات ومعالم الحقيقة ووليد زواج عاثر يلهو بين يديها. قلبان في جسد واحد أصبح يصارع نبضها يوماً داخلها وقلبها الآخر الذي يعمل كمضخة لاستمرار الحياة.. لكن الماضي يستطيع أن يظل هامداً.. ساكناً.. حبيساً كما كان منذ عشرين عاماً.. لكن ماذا تفعل بكل ما ورثته من حاضرها وأين تلقي به؟ وهل يمكن أن تتجاهل حياة استمرت ما يقارب العشرين عاما! فوضى الزمن تعبث بكل شيء وتتعارك الأزمان داخلها يعلم في قرارة نفسه أنه ما هو إلا أطياف ذكرى لا يمكن أن تبدل حقيقة الأشياء أو تعيد ما راح يوماً فيختار لذلك الحب أن يبقى كما الأفق بعيداً.. يريده نزيها من عبث الأيام ومعاولها.. يسير ويبتعد كما لو أنه لم ير سوى سراب حلم جميل.. وعيون حملها من القدم كل الأماني الجميلة وترك لحياتها أن تستمر من دونه ليجنبها مرارة الاختيار.
|
|
|
| |
|