| |
المواطنة والوطنية.. قدر وانتماء د. محمد صفاء بن شيخ ابراهيم حقي/ أكاديمي سعودي
|
|
ينتابني شعور باليأس والقنوط كلما تدبرت أمر فئات من أبناء أمتي ممن فقدوا وطنيتهم وخذلوا أبناء جلدتهم، وأنا أشاهدهم يشوِّهون معالم الجمال، ويطمسون مآثر الأجداد، ونتاج الحضارات، وجهود العظماء، دون اعتبار لدين أو نبض من رحمة، أو وخز من ضمير حي. غير أن الأمل يتغلب على اليأس، والتفاؤل على القنوط، حين تكون الأكثرية والغالبية من أبناء هذه الأمة العظيمة، ومن أبناء هذا الوطن الشامخ الراسخ، هم ممن يثلجون الصدور، ويبعثون روح الاعتزاز والفخر في النفس، بقولهم السديد، وثباتهم على الحق، وتفانيهم في ترسيخ الفضيلة، وبمواقفهم الوطنية الأصيلة، وتضحياتهم الصادقة المخلصة، بوسطية الإسلام المعهودة... كنت أقرأ ما سطره الأخ الدكتور خالد بن عبدالله بن دهيش عن المواطنة والوطنية في مقال طويل له وهو يتحدث عن هذا الموضوع الهام، ووددت لو أن كل فرد قرأ ذلك بتمعن ليعرف حق الوطن عليه، وليعلم كيف تكون الوطنية الحقيقية، وليدرك أن المواطنة لا وزن لها إن لم تتضمن الروح الوطنية وتتشابك معها وتتغلغل في الوجدان حتى تكوِّن مشاعر صادقة اتجاه الوطن واتجاه القاطنين على أرض الوطن. ولقد دفعني هذا الأمر لأعبر عن شيء مما يدور في خلدي عن الموضوع ذاته. قال -سدد الله قلمه-: جاء في قاموس علم الاجتماع تعريف المواطنة: أنها مكانة أو علاقة اجتماعية تقوم بين فرد طبيعي ومجتمع سياسي (دولة). ومن خلال هذه العلاقة يقدم الطرف الأول (المواطن) الولاء، ويتولى الطرف الثاني (الدولة) الحماية، وتتحدد هذه العلاقة بين الفرد والدولة عن طريق أنظمة الحكم القائمة. ويتابع: والوطنية تعني الإحساس بالوطن وامتلاك الصفات الوطنية من حب ورغبة في الذود عنه(1). وعلى هذا فصفة الوطنية أكثر عمقاً من صفة المواطنة أو أنها أعلى درجات المواطنة، فالفرد يكتسب صفة المواطنة بمجرد انتسابه إلى جماعة أو لدولة معينة -بمعنى أنها قدر- ولكنه لا يكتسب صفة الوطنية إلا بالعمل والفعل لصالح لهذه الجماعة أو الدولة وحتى تصبح المصلحة العامة لديه أهم من مصلحته الخاصة ..أهـ بتصرف.. انظر رؤية مواطن للوطن بين (المواطنة والوطنية) د.خالد بن عبدالله بن دهيش، جريدة الجزيرة، العدد (11937). ولا شك أن للمواطنة الصادقة مكونات عديدة متى ما اكتملت أضحت المواطنة وطنية حقيقية وإلا بقيت خالياً من غير روح، ولعل من أهم تلك المكونات: 1) الإخلاص والشعور الصادق بالانتماء للوطن بافتخار وبدافع ذاتي، ومن ثم الاستعداد الجاد للدفاع عنه وعن قضاياه، وعن أرضه وبحره وسمائه وعن رايته ونظامه... والحرص الأكيد على سلامته. 2) تحمل المسؤوليات والواجبات، فكل مواطن عليه أن يكون عنصر خير في وطنه، يقوم بالواجبات المتعينة عليه من صدق في الولاء، وإخلاص في الأداء، وتقدير واحترام للولاة، وتقييد والتزام بالنظام، مع المحافظة على مكتسبات الوطن... وغير ذلك من الواجبات التي يمليها الضمير الوطني الحي. 3) المحافظة على القيم العامة السليمة والسائدة والتحلي بها والدعوة إليها وعدم التخلي عنها كالأمانة والصدق والتناصح والتكاتف والتشاور والتعاون... إلخ. قلت: والناظر في حال الدول المتقدمة والكيانات المتحضرة يلحظ بوضوح وطنية أفرادها مع تنوع مكوناتهم البشرية بأعراقهم وأديانهم وأجناسهم وألوانهم وانتماءاتهم الفكرية، فقد التقت جميعها في بقعة واحدة واستطاعت بعقلية متحضرة وذهنية متفتحة أن تبني وتشيد أرقى عناصر التحضر، كما وتوثقت العلاقة مع القاطنين دون النظر أو الاعتبار لتلك المكونات، بل جعلت الإخلاص والانتماء للوطن (الوطنية) الذي يضمهم، والأرض التي تحملهم، والراية التي تجمعهم، هو الأساس، فانغرس حب الوطن والتفاني فيه في قلوبهم، حتى إن المرء قد يعجز عن التمييز بين المواطن الذي ينتمني للتربة مولداً ومنبتاً وبين المواطن القادم والذي ينتمي للوطن ولاءً وانتماءً، فالكل يعمل ضمن المجموعة بصدق وإخلاص، دون أن يزايد أحد على أحد، وهنا تكون الوطنية مشاعر صادقة، وانتماءً حقيقياً، وولاءً مطلقاً مع الحب والتفاني. وبهذا استطاعت تلك العقلية أن تنجز مشاريع حضارية رائعة حين تكاتفت متجاوزة عنصر العرق واللون والدين، فوجد الغربي مع الشرقي، والأبيض مع الأسود، والأعجمي مع العربي، والمسلم مع غيره، الكل يتحرك حركة واحدة متناغمة، منهجها التعاون والتكاتف والنهوض بالمجتمع إلى الغايات المنشودة، ويبقى لكل فرد خصوصيته في دينه وأصله وفكره لا يعتدي على الآخرين، وفي الوقت نفسه لا يتوانى في تقديم نفسه وتقديم النصح والتوجيه نحو الأفضل.. وهي بلا شك مجتمعات مثالية في كثير من أمورهم المدنية ولا يستطيع أحد أن ينكر ذلك.. غير أننا نحن العرب والمسلمين لم نستطع إلى يومنا هذا أن نتخلص من معضلة أرهقت كاهل القائمين على أمور أوطاننا -أعانهم الله ووفقهم وسدد خطاهم- وأخرت عجلة التقدم والتطور في بلداننا تأخيراً مزعجاً، وهي التمييز على أسس تتعارض مع الوطنية الحقيقية، كإسناد الأمور لغير الأكفاء مع وجود الأكفاء لغرض الصداقة أو الانتماء لمنطقة أو بقعة ضيقة من الوطن، وأخطرها أثراً التمييز الذي يكون على أساس الدين والاعتقاد، مما أدى إلى الشعور بالفوقية والأفضلية، أو الدونية والعزلة، والتي في النهاية بعثت الفرقة ودعت للتنافر بل ورسخت مبدأ الطبقية المقيتة. وكل ذلك من أمور الجاهلية التي نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم، فهو الذي قال لأبي ذر: إنك امرؤ فيك جاهلية. لكون أبا ذر قال لبلال يا ابن السوداء. ولم تهدأ نفس أبي ذر الكريمة المؤمنة حتى مرغ خده في التراب فأقبل بلال ماشياً فقال أبو ذر: والله يا بلال لا أرفع خدي عن التراب حتى تطأه برجلك.. أنت الكريم وأنا المهان..!! فأخذ بلال يبكي ويبكي.. واقترب وقبل ذاك الخد ثم قاما وتعانقا وتباكيا.. إنهم عظماء بحق.. والبعض من أبنائنا -أصلحنا الله وإياهم- ما زال ينسب المواطن إلى لونه وعرقه ومذهبه... وغير ذلك من العراقيل التي تغرس الفرقة، وتكرس مبدأ الطبقية، حيث تجعل بعض أفراد المجتمع يشعر وكأنه ليس مواطناً، أو أنه ناقص المواطنة، ولو نظرنا في واقعنا بواقعية وذهنية المؤمن المتحضر لرأينا أننا نرتكب جريمة بحق أوطاننا وبحق بلداننا وشعوبنا، بل بحق ديننا حين نكرس مثل هذه المفاهيم المغلوطة المنكوسة، فالوطن الذي نستظل جميعاً بظله، والذي نعيش جميعاً على ترابه، ومن خيراته أنبتت أجسادنا، ومن مائه ارتوينا، ومن هوائه استنشقنا، وبه تعلقت نفوسنا، وفي أمنه عشنا ويعيش أبناؤنا، هو وطن الجميع الذي ينبغي أن نكون جميعاً يداً واحدة للنهوض به إلى المعالي، والوقوف صفاً واحداً وجداراً صلباً للدفاع عنه وعن رايته، وأن نقدم أرواحنا فداءً له بأمر شرعنا، وأن نسخر أقلامنا للزود عنه وعن قضاياه، مطيعين لولاة أمرنا بأمر شرعنا، منفذين توجيهاتهم الحكيمة التي تأمر بالخير والتعاون والتكاتف، وتنهى عن الفرقة والنزاع. إن المواطنة يتطلب مرونة في الفكر وسعة في الأفق حتى نستطيع تحقيق الأهداف المأمولة لمجتمعاتنا وبما يخدم الصالح العام. وأعتقد جازماً أننا لو فهمنا المواطنة الحقيقية لأدركنا أن ذاك الذي يفجر منشآت وطنه، أو ذاك الذي يقتل أبناء وطنه، أو يعيق تطوره، أو يرهب بُناتَه، أو يفرق بين أبناء الوطن بزرع الفتن، أو يوزع الاتهامات، أو يسعى إلى تصنيف الناس وفق الأهواء والأفكار والقناعات... الخ أدركنا أن هذا يقف بعمله هذا صفاً مع أعداء وطنه وأعداء رايته.. إن مثل هذا ناقص الوطنية بالتأكيد وإن كان مواطناً، وإن انتسب للأرض والقبيلة، وإن تباكى على الأطلال.. وإن الذي يقف صفاً ليدافع عن قضايا وطنه بلسانه وبيانه، وبروحه وماله، وبمشاعره وعواطفه، يتغنى لأفراح الوطن، ويحزن لأتراحه، ويشعر بالانتماء الحقيقي للراية التي ترفرف فوقه يضع يده بقوة في يد إخوانه.... أعتقد أن هذا هو الوطني المخلص الصادق الذي ينبغي الإشادة به وبمواقفه.. إن المواطنة حقوق وواجبات والتزامات ومواقف.. وقد ينتمي الفرد إلى وطن فيكون مواطناً ولكنه يحجم عن العطاء والتضحية من أجله فلا يكون وطنياً بالتأكيد. وفي الختام لا شك أن حسن الخلق مع أبناء الوطن يؤدي إلى تعزيز روح الأخوة ويقوي أواصر المواطنة ويشد من الروابط بين المجتمع، ويصونها عما يخدشها ويتجنب جرح الآخرين أو محاولة الانتقاص منهم أو تلك التي تثير الفتن، كي تبقى النفوس سليمة بعيدة عن الشحناء والبغضاء، وكي يبقى الوطن دائماً المظلة التي يستظل الجميع به، ويعمل الجميع بصدق وإخلاص لبنائه ونموه. (1) وتعرف بأنها الشعور الجمعي الذي يربط بين أبناء الجماعة ويملأ قلوبهم بحب الوطن والجماعة، والاستعداد لبذل أقصى الجهد في سبيل بنائهما، والاستعداد للموت دفاعاً عنهما.
safahakki@hotmail.com |
|
|
| |
|