كتب الأمير الشاعر عبدالرحمن بن مساعد قصيدتين أحداهما في خادم الحرمين الشريفين، والأخرى مخاطباً فيها سمو ولي عهده الأمين، كان الحس الوطني عالياً، لأنه لا يفصل بين الانتماء للوطن، وبين الانتماء لقائد ذلك الوطن، لأن الوطن والقائد وجهان لمشاعر شامخة، مشاعر تستبطن الوطن من خلال سجايا القائد، وتستقرئ سجايا القائد من خلال ما قدمه للوطن، ليعطينا عبدالرحمن بن مساعد في النهاية (راية) وطنية تحملها مشاعرنا، وتنهل من قصائدها المغسولة بماء الصدق والتعبير المجدول بمعنى عميق للحس الوطني الشاهق، كما يليق بالشعر الحقيقي، وكما يليق بالشاعر الذي لا يشبه الآخرين.
ولخادم الحرمين الشريفين مكانة كبرى في قلب شعبه، وفي قلب أمير الشعر عبدالرحمن بن مساعد حيث استهل قصيدته:
بَدَأْتَ عَهْدكَ عفواً ثُّم إغداقا |
يا مَن مَلكتَ بِنا قلباً وأحداقا |
إن قيلَ عَبدُاللهِ: العَدلُ انبرى |
للمعضلاتِ وللأسقامِ ترياقا |
يا سَيّد الصدق يامن أرضُه أَخذَت |
على محبّتهِ عَهْداً وميثاقا |
قد بايعْتَك قلوبٌ مِلؤها أملُُ |
أن لا تُريها سِوى صُبحاً وإشراقا |
لم أجد في الشعر العربي ما هو أسهل وأسلس من هذه الأبيات ولكني وجدتها أيضاً أصعبهم نظماً وأرقهم شعراً وأصدقهم معنى..
ولا يمكن لأي قارئ، أو ناقد، أو دارس.. أن يتناول قصيدة شعرية بأبعادها المختلفة، بدون استقراء الملامح الأولية التي تشكل منها وعي شاعرها، خصوصاً إذا كانت تلك القصيدة على تنوعها وثرائها، ما هي إلا مرآة حقيقية لذات الشاعر فيما يرى نفسه، ومن خلالها يعكس وعيه الثقافي في إطلالة فارقة على الآخرين، بالرغم أن هناك شعراء يمكن أن تكون قصائدهم حالات استثنائية لا تعبر عنهم بالضرورة، ولكن يبقى الخيال والانفعال أثناء عملية الكتابة يفرض سطوته على ذات الشاعر.
يا فهدُ ذِكْرُكَ يبقى في ضمائرنا |
لا ليسَ يُنْسَى صنيعُ الفهدِ إطلاقا |
يجزيكَ ربُّكَ بالفردوس ِ يا مَلِكا |
ما كان يوماً لغيرِ الخيرِ توّاقا |
بُشْراك فهدُ فدَرْبُ الخيرِ يكمِلُهُ |
فذٌّ جسورٌ يُحق الحقَّ إحقاقا |
كم كان فهدُ عظيما ً في مواقِفِهِ |
كم كنت أنت وفيّا ً وقتَ ما لاقا |
كم هو جميل الوفاء والأجمل ما فعله عبدالله بن عبدالعزيز مع أخيه الأكبر وعضده وسنده فهد بن عبدالعزيز رحمه الله.. في هذه الأبيات يصور شاعرنا الحميمية التي كانت تربط الإخوة ببعض والوفاء والنبل... ويصور أيضاً بعضاً مما خلده الفهد في قلوب شعبه من مواقف لا يجيد التعامل معها سوى العظماء.
ولاّك ربُكَ مُلكاً أنت وارثُهُ |
عن أكرمين فجُزْ بالمجد آفاقا |
لا.. لم تزد بالملْكِ بل أعليتَهُ |
قد كنت منذ ُ قديم ِالوقتِ عِملاقا |
قد كنت للطاغين سيفاً مُهلكاً |
و للمساكينِ إحساناً وإشفاقا |
لا... لَم نفاجَأ بما أغدقتَ من كرمِ |
قد كنت دوماً إلى الخيراتِ سبّاقا |
أجْلَسْت َ شعبَك كُرسيّاً يليقُ بهِ |
طوّقتَ بالحبِّ أفئدةً وأَعناقا |
أبقيتَ كُلّ مُحب زاهيَاً فَرِحاً |
أخْرسْتَ ألسنةً شتّى وأبواقا |
نِعمَ البلادُ بلادٌ قلبُها حََرمُ |
أرضَ الرسالةِ لا تَخْشَينَ إملاقا |
نِعمَ البلادُ بلادٌ أنت قائدُها |
للمسلمين غدَت بِرّاً وإنفاقا |
يا خادمَ الإسلام عزُّك عزُّهُ |
مجدُ الأوائلِ قد ناداك مشتاقا |
فاصعد بِِنا للمجدِ في عَليائهِ |
لا تألُ جهداً ولا همّاً وإرهاقا |
يا خادِم َ الحرمينِ يحفظُك الذيّ |
علِمَ السرائِرَ مكنوناً وأعماقا |
في هذه الأبيات نجد الوطنية متأصلة في شخصية شاعرها، وهي التي تتمثل في سمو حالة الإحساس، وعلى المستوى الفني في البناء اللغوي للقصيدة، تكشف عن تجليات مضاعفة لقيمة المعنى..
في الأبيات السابقة تجلى عبدالرحمن بن مساعد بسرد المناقب الجميلة في شخصية ملك القلوب عبدالله بن عبدالعزيز وهو الإنسان والقائد والأب الحنون..
تبقى السياسةُ أمراً ما به خُلُقُ
جَاءَتْ إليكَ فَصَارَت مِنْكَ أخلاقا
هذا البيت بالذات لا يستطيع أي كاتب أو قارئ جيد للشعر أن يتحدث عنه.. فقد فاق إبداعه اللغوي والمدلول اللفظي له والصدق الذي ينبض به حروفه.. أي وصف أو حديث..
قراءة لقصيدة: سلطان المفدى
فريدُ اللفظ سحريُّ البيانِ |
وتاجُ الشعرِ في هذا الزمانِ |
عزيزٌ هامتي فوقَ الثُّرَيَّا |
يبايعني ملوكُ الشّعر كَرهاً |
فما لم يبلغوا.. طوعاً أتاني |
أنا الإعجازُ مَا أبقيتُ شيئاً |
لهم.. إلا التأفُّفَ والأماني |
فما بقصيدتي.. بيتٌ.. وبيتٌ |
و أعظمُ مَا بِها.. طَوعَ البنانِ |
أغوصُ ببحرِها وبِعُشْرِ فكري |
أُ لَملِمُ دُرَّ هاتيك المعاني |
سلطان بن عبدالعزيز... أطول الصفاتِ قامة.. وأعرضهم حلماً.. رجلٌ من زمنٍ سمي باسمه.. فالسعيد من عاش هذا الزمن.
أجودُ من المطرِ وأسرعُ من الريحِ عطاءً..
وحسبي من العقد ما يحيط بالعنق... وحسبي من الشعر ما استقر في حواصل طيرٍ من الإعجاز بناء عُشه بين ضلوع الشاعر الأمير عبدالرحمن بن مساعد.
فالشاعر عبدالرحمن بن مساعد من خلال شخصيته الثقافية ومن خلال وعيه الإنساني المعرفي يعطينا فرصة مهمة للتعرف على عالمه الشعري، ومنطلقاته الجمالية، والدينية، والوطنية، والإنسانية والعاطفية والسياسية أيضاً
في هذه القصيدة.. وهذه المقدمة الاستثنائية..لم يكن غرور الشاعر الذي يسكن كل مبدع ولم يكن حديثاً افتراه على الشعر بقدر ما هو إشفاق على نفسه التي أرهقها تواضعاً... ذلكم هو تاج الشعر وساحرُ البيان... بايعه ملوك الشعر كَرهاً.. جعل من بيوت الشعر قصوراً بِعُشر فكره فلملم دُر المعاني... ليعيد صياغة العِقد والشِعر معاً.
فلو لم يرَ نفسه الأمير الشاعر كذلك لما تجرأ على كتابة نصٍ يليق بقامة الأمير سلطان بن عبدالعزيز.
يقول المتنبي في قصيدته لسيف الدولة:
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي وأسمعت كلماتي من به صمم
ويقول الأمير بدر بن عبدالمحسن في قصيدة الموجهة للملك فهد رحمه الله:
سيدي والله ما أشوف الأنداد أنا وحيد الشعر ما خلق ثاني
الهدية من قيمة صاحبها.. والشعر من مكانة قائله الأدبية...
ثم يحاول الشاعر المعراج إلى مدح بعض سجايا عمه الأمير سلطان بن عبدالعزيز بقوله:
ألا يا سيّدي يا تاجَ رأسي |
بمدحِكَ.. يرتقي شَرَفاً مكاني |
وهنا ربط الشاعر بين مكانته الأدبية ومدح سموه الكريم حيث إن مجرد ذكر اسم عمه سلطان بالقصيدة فإن مكانته تعلو وترتفع وتزيده شرفاً ومكانة..
عظيمَ المجدِ سلطانَ المفدّى |
مكانُك في العيونِ وفي المحاني |
فكَم كفكفْتَ من دمعٍ حزينٍ |
وكم أسعدتَ من قلبٍ يُعاني |
ولستُ أقولُ فيكَ الجُودُ طبعُ |
فأنت الجودُ.. حيثُ الطبعُ فاني |
فأنت الجود... حيث الطبع فاني.... ومفردة الجود لغوياً هي أعلى مراتب الكرم والعطاء والسخاء.. فالسخي الذي يعطي بكثرة حينما يُسأل.. أم الجوّاد فهو الذي يعطي بكثرة حينما يُسأل وبدون سؤال.. فالله سبحانه وتعالى سَمَّى نفسه بالجوّاد ولله المثل الأعلى.
أيا من حبُّهُ يَكسو ضلوعي |
فِداك دمي وما يَحوي كياني |
تَلَلْتَ من المعالي كُلَّ نجمٍ |
وقال عظيمُ مجدِكَ: ما كفاني |
أبا الإغداقِ والإحسانِ عمّي |
فهل تستغربونَ عُلوَّ شاني؟ |
تللت من المعالي كل نجمٍ... وهو معنىً غير مسبوق.. فلم يصعد سلطان بن عبدالعزيز للمعالي.. بل هو وُلد عالياً.. شامخاً.. فوق النجوم.. ولكن المجد والتاريخ يطلبان المزيد.. لذلك ذكر الشاعر بعض المزيد من مجد سلطان المفدى:
بشوشُ الوجهِ محمودُ السجايا |
يسابقُ خيرُه ركضَ الثواني |
وإن يغضبْ سَتدرِكُ كيف أن ال |
حياةَ للابتلاء والاْمتحانِ |
شديدُ البأسِ أن ما حلَّ خَطْب |
بأرض البيتِ والركن اليماني |
مذيق للعِدا فَتْكَ الطِّعانِ |
تنجّي سُفْنُهُ بَرَّ الأمانِ |
بمثلِ صَنِيعهِ تُقْ للجِنانِ |
رفيعُ الشأنِ في كل الأوانِ |
أَأَ بْلُغُ وَصْفَهُ شِعراً..؟ عساني |
بنى للدارِ جيشاً لا يضاهى |
أقلُّ صفاتِهِ صدقُ التفاني |
بَناهُ وشادَهُ زمناً طويلاً |
ألا بورِكتَ من مبني وباني |
ومع أن الشاعر قال في بداية قصيدته:
يبايعني ملوكُ الشّعر كَرهاً |
فما لم يبلغوا.. طوعاً أتاني |
أنا الإعجازُ مَا أبقيتُ شيئاً |
لهم.. إلا التأفُّفَ والأماني |
أَأَ بْلُغُ وَصْفَهُ شِعراً..؟ عساني |
ألا قد كدتُ أن أَجزيك شكراً |
ألا وألف عُجبٍ.. ما دهاني؟ |
من الشكرِ الجزيل والامتنانِ؟ |
هذا هو الشاعر عبدالرحمن بن مساعد.. فيعترف بأنه الإعجاز الذي لم يبقِ لمنافسيه بالشعر شيئاً ومع ذلك يتمنى هذا الإعجاز الشعري أن يستطيع أن يبلغ وصف الأمير سلطان بن عبدالعزيز شعراً.. بقوله: أَأَبْلُغُ وَصْفَهُ شِعراً.. عساني؟..
عبد الرحمن بن مساعد يغزل تفاصيل قصيدته الحميمية، وتتعانق المفردات المتضادة.. وهذه القصيدة العميقة لشاعرنا الأمير عبد الرحمن بن مساعد، تأخذنا إلى عمق المشاعر الحميمة والصادقة المسيجة بالنبل والعزة والشموخ.
|