| |
لما هو آت لغات البكاء.......! خيرية إبراهيم السَّقاف
|
|
تزج ابنك في مدرسة... وأنت تعلم أنك تخرجه للوهلة الأولى من الرحم الثاني بعد أحشاء أمه.. وهو حين يخرج في الأولى يبكي.... تلك غربته الأولى...... وفي يومه الأول في المدرسة يبكي.... وهذه غربته الثانية.... لا يتخلص من البكاء إلا بعد أن يندمج بمن.. ومع.. وفيما حوله... تتسع به دائرة الغربة تتسع حتى يخرج للمجتمع الأكبر... تطوح به زوايا الكرة التي يتحرك فيها.... يحتك بكل ما يرده ويستقبل........ ويتفاعل مع كل ما هو خارج عنه بكل ما يصدِّره.... غربته الأولى تمتد فتتلاحم مع الثانية تدوران في مجاله الوجداني.... هناك ينتمي لأبويه ودفء محضنيهما ومظلة بيتهما... في المدرسة ينتمي لمعلميه وزملائه، حيث تنحو الغربة لمجال وجداني أوسع... في المجتمع الكبير بعد نموه وكبره واتساع حجم معارفه وتنوع مواقفه المتبادلة مع الناس على اختلافهم... فتصغر دائرة الغربة وتتعين....... يغترب المرء في الحياة الواسعة غربة عقل، حيث تختلف الأفكار والتوجهات والمعتقدات والأخلاق والسلوك..... يغترب غربة روح، حيث تتنافر المشاعر وعندما يخدش الإحساس... أو يفتقد الحب أو تفنى القيم..... المبدعون من أولئك الذين وهبهم الله عيوناً قلبية تبصر تتسع لهم رؤية جدار العقول والقلوب... يستطيعون العبور بأسوار الدواخل والولوج من بوابات العالم المتسع الذي في داخل العقول والنفوس والصدور... يتفاعلون مع وحشة دمعة.. ولون صمت... يندفون جوَّانية الإنسان.. ويعيدون تشكيلها في عمل فكري راقٍ... قصة معبرة، قصيدة متوغلة، خاطرة شفيفة.. لوحة ناطقة،.... أو بأي لون من ألوان التعبير.... أصدق ما يعبر عن غربة الإنسان ملامحه... دمعة نافرة.. آهة فارّة... صمت يتحدث.... الغربة وحشة.. يعيشها الإنسان حتى وهو يضحك ويندمج للحظات أو يتنقل بخفة بين البشر.... الغربة مشاعر ووحشة توحُّد لا يدركها الذين لا يُسمعون البكاء.. الوليد يصرخ باكياً لغربته الأولى وهو يغادر أحشاء أمه... والطفل يصرخ باكياً لغربته الثانية وهو يغادر بيت والديه... في الغربتين يُسمع صوته الخارج عن فمه....... لكنه وهو يبكي غربته الكبيرة في الحياة فإن بكاءه يحتاج لعيون وبصائر وآذان ليست ضمن منظومة المحسوس... لأنه في هذه الغربة لا يبكي بصوته المسموع الخارج عن فمه....... هناك لغات أخرى للبكاء........
|
|
|
| |
|