اطلعت على مقالة الأخ الكريم عبدالله بن ثاني المنشورة في جريدة الجزيرة العدد 12471 بتاريخ 29-10- 1427هـ التي تدور في مجملها حول موقف بني تميم في الردة، وإن كان المقال تشعب شيئاً ما وأثار بعض القضايا الجانبية، وملاحظاتي هنا، منها ما يتعلق بالمنهجية، ومنها ما يتعلق بالمعلومات الواردة أثناء المثال، أجملها فيما يأتي:
أولاً: إن إيراد الحقائق التاريخية واعتماد تلك الرواية أو نفي الأخرى يحتاج إلى تحر وتدقيق، وليس إلى مجرد نقولات ينقض بعضها بعضاً، وغاية ما في الأمر أن الكاتب ينفي حادثة أو معلومة معينة بإيراد رواية أخرى لا تزيد عليها قوة وثباتاً من حيث سندها أو مصدرها، فتجده مثلاً يقول: (وأما قول الفريح نقلاً عن معاصر حديث، كما في كتاب نجد لمحمود شاكر)، (وأوضح البلاذري تصدي الرباب من تميم لهذه الحملة، كما أورد الطبري محاربة بني الهجيم لها)، وفي معالجة علمية ذكر فضيلة الشيخ عبدالعزيز أن أتباعها كانوا من النمر وتغلب وإياد، وأن تميماً قد حاربت هذه الحملة، يقول ابن ثاني: هذا القول مردود بقول البلاذري نفسه في فتوح البلدان، إذ يقول: (وتنبأت أم صادر سجاح بنت أوس بن حق بن أسامة بن العنبر بن يربوع بن حنظلة بن زيد مناة بن تميم، ويقال هي: سجاح بنت الحارث بن عقفان بن سويد بن خالد بن أسامة، وتكهنت فاتبعها قوم من بني تميم، وقوم من أخوالها من بني تغلب) أ.هـ.
فأقول: إن جميع ما ذكره د. الفريح في العبارة التي ردها الكاتب بناء على قول البلاذري - كما يزعم - موجود في المصادر التاريخية، ومنها البلاذري، فمن الذي يثبت هذا أو ينفي ذاك، على أن كلمة البلاذري التي أوردها لا تحمل في ثناياها أي رد على الكلام السابق، فالبلاذري يذكر أن سجاح تبعها قوم من بن تميم، وليس في هذا أي تعارض مع ما ذكره د. الفريح نقلاً عن المصادر التاريخية من أن الرباب والهجيم تصدوا لحملتها، وأن أتباعها كانوا من النمر وتغلب وإياد.
ومن هذا القبيل أيضاً ما ذكره في فقرته الثالثة رداً على الخبر القائل أن أول صدقة وردت المدينة هي صدقة الزبرقان بن بدر بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر أن بعض المصادر نصت على ردة الزبرقان، وفي نظري أن من ثبت إسلامه وصحبته أيضاً، فالأصل بقاؤه على الإسلام وعدم إخراجه منه إلا بدليل قوي ومستند واضح، فكيف إذا كان عندنا من النصوص التاريخية ما يؤيد ثباته على إسلامه ووفائه لدينه، يقول الزبرقان - رضي الله عنه - في قصيدة بعدما قدم بصدقته على المدينة وكبر المسلمون لأجل ذلك:
وفيت بأذواد الرسول وقد أبت
سعاة فلم يردد بعيراً مجيرها
فأديتها كي لا أخون بذمتي
محانيق لم تدرس لركب ظهورها
وقال أيضاً:
وفيت بأذواد النبي محمد
وكنت امرءاً لا أفسد الدين بالغدر
وذكر الإمام ابن عبدالبر (الاستيعاب ص245) في ترجمة زياد بن حنظلة أنه أرسل إلى قيس بن عاصم والزبرقان بن بدر ليتعاونا على مسيلمة وطليحة والأسود.
ثانياً: من التناقض العجيب أن الكاتب يورد ما يهدم كلامه ويبطل استدلاله في الفقرة نفسها، فتجده يقول: فالقول بالخطأ مردود فما لك لم يقتل في المعركة بل قتل صبراً، وفي هذه الحالة إما أن يكون قتله على وجه حق، أو يكون باطلاً يستوجب حداً... الخ.
وقبل بيان تناقض الكاتب نوضح أن هذا من التلاعب بعقول القراء، فهو يتكلم عن القتل خطأ، ثم في الرد على الكلام يجعل المسألة في شقين (إما أن يكون حقاً أو يكون باطلاً) وكلمة باطل قد تعني أنه قتله متعمداً من غير وجه حق، بعكس الخطأ الذي عليه مدار الحديث، وهو أن يكون متأولاً أو مجتهداً، وقد خرج الكاتب من التاريخ إلى الفقه، فهو يرى أن قتل خالد لمالك بغير حق يستوجب حداً، ولكنه يعود بعد ذلك لينقض غزله ويدفع حجته بنفسه حينما يذكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد) وذلك عندما قتل خالد الأسارى من بني جذيمة، فوداهم صلى الله عليه وسلم، وقال مقولته تلك، ولم يعزل خالداً عن إمرة الجيش، فضلاً عن أن يقيم عليه الحد كما يزعم أخونا الفاضل.
ثالثاً: في اعتقادي أن المقال كله مبني على المغالطة، إذ إن ما أورده د. عبدالرحمن الفريح ونقل عن الشيخ الدكتور عبدالعزيز الفريح في هذه القضية أعني موقف بني تميم في الردة لم يكن يتحدث عن أفراد تبعوا سجاح أو لم يتبعوها، وإنما يتحدث عن أن بني تميم لم تكن لهم ردة حقيقة كما ارتدت بعض قبائل العرب بمجملها، فإن المصادر تقول: وارتدت بنو حنيفة، بل ما يدل على عموم الردة في بني بكر بن وائل وقبائل ربيعة، أن بطوناً منهم في اليمامة في وادي الفقي (سدير) وغيره قد شاركوا مع مسيلمة في حرب اليمامة، وذكر في معجم البلدان أن بني العنبر نزلوا الفقي بعد أن خلا من أهله البكريين الذين قتلوا مع مسيلمة.
وارتدت قبائل ربيعة في البحرين - كما ارتدت في نجد - ما عدا عبدالقيس، واجتمعت على الحطم بن ضبيعة، وكانت لهم معارك عنيفة مع جيش الخلافة، مثل ما كان في اليمامة، عن أنها ردة من ورائها عصبية القبيلة، وإن كان أفراد من هذه القبيلة ثبتوا على الإسلام، في حين أن الحديث عن بني تميم بشكل عام يأتي في الموقف المناوئ للردة المنتصر للحق، فلم تكن هناك أي معارك مع جيش الخلافة، ولم يقتل أحد من سادتهم، بل العكس من ذلك يقول ابن كثير (9-462): (فلما وصل البطاح - أي خالد - وعليها مالك بن نويرة، فبث خالد السرايا في البطاح يدعون الناس، فاستقبله أمراء بني تميم بالسمع والطاعة، وبذلوا الزكوات، إلا ما كان من مالك بن نويرة، فإنه متحير في أمره، متنح عن الناس..)، وذكر الطبري قريباً من ذلك في النص الذي أورده الكاتب: (فلم يبق في بلاد بني حنظلة شيء يكره إلا ما كان من أمر مالك بن نويرة، ومن تأشب إليه بالبطاح، فهو على حاله متحير شجٍ) وقد ذكرنا موقف الزبرقان من قبل، أما عطارد بن حاجب، فقد ذكر الطبري وغيره أنه خرج في سروات بني مالك، فنزل على سمرة بن عمرو العنبري، وخرج أشراف بني يربوع ونزلوا على الحصين بن نيار المازني كرهاً لما صنع مالك)، كما ذكر الطبري أيضاً أن سجاح عندما بلغت وجنودها النباج أغار عليهم أوس بن خزيمة الهجيمي، ومن معه من بني عمرو فأسر قواد سجاح، الهذيل التغلبي أسره رجل من بني مازن، وعقة بن هلال قائد النمر بن قاسط أسره عبدة الهجيمي، ثم تحاجزوا على أن يردوا الأسرى وينصرفوا عنهم، ولا يتجاوزا عليهم ففعلوا).
وقد دعت سجاح إلى غزو سعد والرباب، كما كان قيس بن عاصم - رضي الله عنه - من أبرز القادة مع العلاء بن الحضرمي في حرب المرتدين، وهو الذي أجهز على الحطم بن ضبيعة قائد المرتدين في البحرين (البداية والنهاية 9-478)، وطعن أبجر بن بجير العجلي وفي ذلك يقول عفيف بن المنذر أحد بني عمرو:
فإن يرقأ العرقوب لا يرقأ النسا
وما كل من تهوى بذلك عالم
ألم تر أنا قد فللنا حماتهم
بأسرة عمرو والرباب الأكارم
فههنا بنو العنبر وبنو مازن وبنو الهجيم والرباب وسعد وسروات بني مالك بن حنظلة، ومنهم بنو يربوع كلهم في صفوف الرافضين للردة، هذا بالنسبة إلى مجمل القبائل، والأفراد الذين ورد ذكرهم فيمن انضم إلى سجاح كعطارد بن حاجب والزبرقان وقيس بن عاصم، تذكر أخبارهم في الموقف المعادي للمرتدين ألا يقف هذا كله دليلاً قاطعاً على أنه لم تكن هناك ردة حقيقية لبني تميم؟! وإنما تحيرٌ في بداية الأمر لأفراد منهم، ثم التسليم الكامل بعد ذلك من الجميع، ويكفي أن مالكاً بن نويرة، وهو أبرز من ذكر في هذا الأمر اختلف في أمره اختلافاً بيناً بين الصحابة أنفسهم كما هو ثابت ومتواتر هل قتل مسلماً أو مرتداً، كما ذكر ذلك الإمام ابن عبدالبر (الاستيعاب ص117)، وابن حجر (الإصابة 1168 - 1179)، بل رجح ابن كثير أن خالداً قد اجتهد في قتله وأخطأ وأن أبا بكر ودى عنه (البداية والنهاية 9-465)، ولم يؤسر في معركة، بل ذهبت سرية من السرايا وأتت به من غير قتال.
رابعاً: ما أنكره الكاتب على د. الفريح نسبة سجاح إلى بني تغلب، فأقول: إن الدكتور لم يختلق هذا الكلام من تلقاء نفسه، بل ذكرت بعض المصادر ذلك، ومن ذلك (البداية والنهاية) قال ابن كثير: ... إذ أقبلت سجاح بنت الحارث بن سعيد بن عقفان التغلبية، من الجزيرة...).
خامساً: ما ذكره الكاتب من أن الأحنف كان صغيراً زمن الردة (عمره 15 سنة)، أقول: أولاً لم تذكر المصادر المتقدمة سنة ولادته، وثانياً، جاء في ترجمة الأحنف في (الاستيعاب 77 والإصابة 25) (وابن قتيبة في المعارف) وغيره: أن الأحنف كان أدرك عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يره، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا له، وذلك أنه أرسل - صلى الله عليه وسلم - رجلاً من ليث إلى بني سعد رهط الأحنف يعرض عليهم الإسلام، فقال الأحنف: إنه يدعو إلى خير ويأمر بالخير، فذُكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: اللهم اغفر للأحنف) والحديث أخرجه الإمام أحمد وغيره.
فهذا النص ينفي بشدة من أنه كان صغيراً في وقت النبي صلى الله عليه وسلم، فضلاً عن زمن عن أبي بكر، وقد ذكر أنه وفد في بداية خلافة عمر فقال عمر: هذا سيد أهل المشرق.
سادساً: كلامه عن العصبية القبلية: تحدث الكاتب - وفقه الله - عن أن كلام الدكتور عبدالعزيز الفريح يشم منه رائحة العصبية، مع أن كلام الدكتور عبدالعزيز في هذه المسألة مبني على تأصيل منهجي وبحث علمي لا هو كحال مقال الكاتب، وقال مثل ذلك عن الدكتور عبدالرحمن الفريح، فماذا نقول لغضبته المضرية أو الربعية إن شئت في تعقيبه على الدكتور عبدالرحمن الفريح عندما ذكر أن بني تميم أجلت بطون ربيعة من أطراف الجزيرة العربية إلى أرياف العراق، فأفاض الكاتب في ذكر شجاعة ربيعة ومناقبها، وتحدث عن يوم صفين وموقفهم مع علي بن أبي طالب، وليت شعري ما علاقة هذا الكلام بالحديث عن حقائق تاريخية، وهل يعني إجلاء بني تميم لقبائل من ربيعة على حدود الجزيرة العربية إلى سواد العراق أن ربيعة كانت مستضعفة أو مهينة؟!! وهل ينطر أحد بسالة بني حنيفة حتى ورد أن قول الله تعالى: {سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} نزلت فيهم، وهل تخفى شجاعة بني شيبان من بكر، أو بني قيس بن ثعلبة وسائر بطون ربيعة من بكر وتغلب؟!
ولكن الأيام دول وشأن القبائل والدول والشعوب في تقلب وارتفاع وانخفاض، وتاريخ الجزيرة العربية القديم والحديث أكبر شاهد على ذلك، ففي كل حقبة زمنية تسيطر قبيلة معينة ثم تضعف فتسيطر قبيلة أخرى على منازلها.
وهذا الأمر؛ أعني سيطرة بني تميم واحتلالهم منازل ربيعة في بداية ظهور الإسلام، أمر لا يمكن إنكاره، بل هو من الحقائق التاريخية التي تظهر بوضوح لمن يستقرئ تاريخ تلك الفترة ويبحث في منازل القبائل العربية، ولعل الشيخ حمد الجاسر - رحمه الله - علامة الجزيرة في هذا الشأن وله الباع الطولى فيه وهو المرجع والمعتمد حينما يتحدث عن المواضع والبلدان، يقول في معجم المنطقة الشرقية: (وكانت ثاج إبان ظهور الإسلام وما حولها من منازل فروع من قبيلة ربيعة، من عنزة ومن بني بكر بن وائل، ومن غيرهم من فروع ربيعة، كما يفهم من قصيدة راشد بن شهاب اليشكري من بكر بن وائل، وكما في كلام صاحب النقائض أن أهلها من بني قيس بن ثعلبة، ثم بدأت المناوشات بين بني تميم وبين سكان هذه الجهات من ربيعة، من ذلك العهد، حتى انتهت بتغلب بني تميم على البلاد، ونزوح بطون ربيعة إلى أرياف العراق، فانتشرت بطون تميم مكانها في وادي الستار الذي تقع فيه بلدة ثاج، وفيما حوله من المواضع إلى فلج (وادي الباطن) شمالاً، حيث حلت في الوادي بطون من بني تميم في صدر الإسلام، مع احتمال بقاء أناس من ربيعة متحضرين في القرى كثاج وغيره ممن لا ترهب سطوتهم). وقال في موضع آخر: (وكانت بلاد بكر بن وائل تجاور بلاد بني تميم من الناحية الشمالية، بعد أن أزالتهم بنو تميم بعد ظهور الإسلام بزمن يسير من هذه البلاد التي كثرت فيها الوقائع بين القبيلتين).
وفي موضع آخر قال ما نصه: (يتضح من النصوص التي تقدمت أن بني بكر بن وائل ساروا من بلادهم بنواحي الكوفة لغزو بني تميم الذين نحّوهم من بلادهم في شرقي الجزيرة وحلوها) وقال قريباً من هذا الكلام في الحديث عن ثيتل والنباج.
وهذا الأمر من الشهرة بحيث لا يمكن إنكاره، يقول حُريث بن مُحفِّض المازني التميمي: