| |
يارا عبدالله بن بخيت الوصاية
|
|
اعتاد رئيس التحرير الأستاذ خالد المالك تزويد زملاءه الكتّاب والمحررين بكل الخطابات الرسمية ووجهات نظر القرّاء وصور مما يُكتب في المنتديات الإلكترونية. لا يأتي هذا الإجراء من باب التحذير أو بهدف (العمل بموجبه)، ولكن من باب التغذية المرتدة ومتابعة ردود الأفعال. أتمتع بقراءة ما يصلني (وخصوصاً خطابات المسؤولين) على رغم أن الأمر في معظمه أصبح جزءاً من الماضي بعد أن تخفّف من حمولته السلطوية وسقط عنه مفهوم الوصاية. الشيء اللافت للنظر أن بعض المسؤولين وحتى بعض القراء لم يعِ بعدُ أن العالم تغيَّر بتغير العلاقات؛ فمسؤول وزارة الإعلام على سبيل المثال لم تعد علاقته بالصحف هي نفس العلاقة التي كانت قائمة قبل عشر سنوات مثلاً.. أتذكر في إحدى المرات استُدعيت إلى وزارة الإعلام لمقابلة أحد المسؤولين على هفوة ارتكبتها. كما لا يخفى عليكم تعتبر وزارة الإعلام قلعة لا يشبهها من حيث السرية والتحوُّط سوى حصن الموت الذي أسّسه حسن الصباح في العصور الوسيطة. بعد عبور مجموعة من الحواجز ونقاط التفتيش والمراقبة دخلت مكتب المسؤول. وفوراً دخلت معه في مناقشات موسعة استخدمت فيها ألين أنواع القول مغلفاً بابتسامات عذبة لم أمحضها حتى لأعز حبيبة في حياتي. يبدو أن ابتساماتي وقولي الهين اللين ألان تصلُّب سعادته ففصل تشابك أصابعه المتوترة وخلع كوعيه عن الطاولة وألقى بعموده الفقري على مسند الكرسي ثم تكرّم قائلاً: ترانا متسامحين معكم كثيراً يا أخ عبد الله، هالمرة يمكنك أن تذهب. شعرت بالراحة. وفي حمى الكلمات المنافقة والمتزلفة مددت له يدي وصافحته ثم خرجت لا ألوي على شيء. اتصلت بالزميل المسؤول في الجريدة وقلتُ له: أبشرك كل شيء على ما يرام. كانت جملة (متسامحين معكم) هي ملخص العلاقة بين الكتّاب والوزارة. لكن وصاية وزارة الإعلام على الكتّاب لم تكن الوصاية الوحيدة، كانت هناك وصايات لا حصر لها. تأتي رسائل توجيه وتوبيخ بل وتشجيع أبوي من كثير من الدوائر الحكومية الأخرى. ولكن أبلغ وأقوى أنواع الوصايات تلك الوصاية التي تأتي من رجال الدين والدعاة وكل مَن فتح له منبراً دينياً يلتفّ حوله بعض الصبية. لا تفاجأ ككاتب إذا رفعت سماعة التليفون لينقضّ عليك صوت رجالي رجولي حازم آمر يوبخك ويأمرك وينصحك وينكرك. في إحدى السنوات اتّصل أحد هؤلاء المنكرين بأحد المسؤولين في إحدى الجرائد، وكنت بالصدفة إلى جانبه. وبعد تحية ناشفة مليئة قال: أمامك أمران: إما أن تشكل لجنة شرعية تراقب مقالات هذا الكاتب وإما أن تفصله فوراً. كان يجب على زميلي أن يمتثل أو أن يتزلّف إليه كما تزلّفت إلى مسؤول الإعلام بأقوال الخضوع وابتسامات العذوبة الزائفة، لكن زميلي هذا كان من النوع القوي الذي يذهب في الخصومات إلى أقصاها. ردّ على الشيخ قائلاً بالحرف الواحد: ليس لديّ تعليمات أن أتلقّى الأوامر منك، إذا كان لديك أي دعوى ضد الجريدة عليك الاتصال بوزارة الإعلام، ثم سكر السماعة في وجهه. لكن نهاية وصايات الدوائر الحكومية وتلاشي سلطة قيادات الدعاة لم يُنْهِ فكرة الوصاية على الكتّاب؛ فالمسألة يبدو أنها تحوّلت إلى ما يمكن أن أسميهم العوام (مع أني أكره هذه الكلمة، ولكنها أنسب كلمة تصف بها هؤلاء الشباب الذين يُقادون إلى حتفهم تحت شعارات دينية كما هي حال شباب غزوة اليمامة). أتلقّى يومياً رسائل وفاكسات يظن أصحابها أن واجبهم يملي عليهم الإنكار على الكاتب وتوبيخه إذا لزم الأمر، وهذا أشد أنواع الوصاية مرارة وخطورة؛ فالجاهل الصغير لا يعرف حدود سلطته وإمكاناته؛ حيث يخلط خلطاً بيِّناً بين مفهوم الإنكار والوصاية، وإذا لم نفصل بين هذين المفهومين ونلغي إحساس السلطة المغلَّف في كلاهما فسوف يأتي اليوم الذي ندفع فيه ثمناً باهظاً لا يمكن تعويضه.
yara4u2@hotmail.com |
|
|
| |
|